نصر أكيد مع الصبر بإذن الله


الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومَنْ والاه.

وبعد؛ فإنَّ الشعوبَ حين تثورُ فإنها لا تهدأُ حتى تستخلصَ كرامتَها، وتحققَّ أهدافَها، وتسْحَقَ المصادِرين لحريَّتِها والمتكبِّرين عليها، كائنةً ما كانت التضحياتُ والثمنُ الذي يدفعونه لنَيْلِ الحريَّة. هذا في عموم الثورات الإنسانية، وفي خصوصِ ثورتِنا المصريَّةِ العظيمةِ فإنها تتميَّزُ على ذلك بأنَّ ثقةَ الثائرين بالله وبموعوده لا حدودَ لها ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾، ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ﴾،﴿وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾، ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾، إلى غير ذلك من الآياتِ القاطعةِ بأنَّ نصرَ اللهِ حاصلٌ لا محالةَ للمؤمنين، وأنَّ هذا النصرَ وعدٌ من الله للمظلومين ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ﴾، ﴿ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾.

قد يتأخر النصر:

قد يتأخَّرُ الحسْمُ الإلهيُّ لِحِكَمٍ إلهيةٍ بالغةٍ، منها:

انكشافُ معادنِ الرِّجال، والتمايزُ في الصفوفِ، حيث يتميَّزُ الصادِقُون من الكاذِبِين، والمخلِصُون من الانتهازيِّين﴿مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ﴾، ويتبين الشُّجعانُ من الجُبَناءِ المتخاذِلين، والمجاهِدُون الحقيقيُّون من المدَّعِين المعَوِّقين الخانِعين، مع ما قدْ يُصاحِبُ ذلك من مُفاجآتٍ مُذْهِلةٍ تُحَيِّر أُولي الألْبابِ، فضلًا عن عُمومِ الناس، حين تتساقطُ كلُّ الأقنِعةِ عن الوجوهِ، وتَغْدو المحنةُ خافضةً لقومٍ رافعةً لآخرين، وتكشِفُ الشدَّةُ مَنْ بَكَى ممَّنْ تَبَاكَى ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَة﴾ (الأنفال 42).

وقد يتأخَّرُ النَّصْرُ حتى يتوحَّدَ الصفُّ على الأهدافِ المشتركةِ، ويدركَ قيمةَ وخطورةَ جهادِه العظيمِ، وقيمةَ وأهميةَ اللجوءِ الكاملِ والمخلصِ لله الذي يُجيبُ المضطرَّ إذا دَعاهُ ويَكشِفُ السوء ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ. وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، ولنضع نصب أعيننا دائما هذه القاعدة القرآنية ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾.

الصراع جولات متلاحقة فلا تتألم:

إن المعركةَ مع أعداءِ الحقِّ وخصومِ الحريةِ والكرامةِ طويلةٌ متعدِّدةُ الحلقاتِ والجولات، فلا ينبغي أن يأخذنا الغرور في حالة المد الثوري، ولا أن يصيبنا اليأس عند حصول الجزر، بل علينا أن نحرص على استمرار الكتلة الصلبة في حراكها المتفائل بإذن الله.

قد يصيبُ البعضَ شيءٌ من الضعفِ البشريِّ، أو الإحباطِ الطارئِ في إحدى الجَوْلات، أو الاهتزازِ أمامَ ضخامةِ الحدَثِ وجسامةِ التضحيات، لكنَّ المؤمنَ لا يهتزُّ يقينُه أبدًا بتحقيقِ وعْدِ الله، فمع ما أصابَ المؤمنين من زلزلةٍ في الأحزابِ فإنهم قالوا ﴿هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾.

قد يؤلمك أن تسمعَ من بعضِ إخوانِك كلماتٍ تدلُّ على نفادِ الصَّبْر، فلا تجزعْ لكن عليك أن تُذَكِّرَهم بأنَّ ذلك دليلُ اقترابِ النصر﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾.

قد يزعِجُك أنْ يقعدَ البعضُ في الطريقِ يأسًا أو إجهادًا وضعفًا، فلْتَكُنْ على يقينٍ من قُرْبِ النصرِ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ﴾، واعلم بأنَّ للنصرِ موعدًا حدَّده الله، لا يُعْجِلُه عن موعدِه شِدَّةُ التألمُّ ولا فداحةُ التكلفة﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾.

وليس بين الصادقين في جهادِهم وبين النصرِ إلا قوَّةُ الصبرِ حين يشتدُّ عضُّ الأصابعِ بين الطرفين ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا﴾، فَمَنْ كَانَ أَصْبَرَ كَانَ بِالنَّصْرِ والتَّوْفِيقِ أَجْدَرَ﴿وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ﴾ لِأَنَّ الْمُبْدِّلَ لِكَلِمَاتِ غَيْرِهِ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ قُدْرَتُهُ فَوْقَ قُدْرَتِهِ،وَسُلْطَانُهُ أَعْلَى مِنْ سُلْطَانِهِ، فمَنْ ذا يقدِرُ على تبديلِ كلماتِ الله؟

﴿وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾ ما يصفُ متاعبَ الطريقِ وعقباتِه،ويؤكِّدُ ما ينتظرُ المؤمنينَ بعدَ ذلك كلِّه في نهايةِ الطَّريق.

ثورتنا لها امتداد عالمي فلا تنزعج:

لا بد أن نعلمَ أنَّ ثورتَنا ليست ككلِّ ثوراتِ الناس، لأنَّ ما سيترتبُ عليها محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا، بل تاريخيًّا سيكون ضخمًا للغاية، ولهذا فالمؤامرةُ عليها متعددةُ الأطراف، والأمل فيها ليس أمل المصريين وحدهم، بل أمل مئات الملايين من المسلمين ومن غيرهم الذين يتابعون بأرواحهم وأشواقهم ثورتنا دقيقة بدقيقة، ويشاطروننا الدعاء والأمل، وينتظرون لحظة إعلان نجاح الثورة كما ننتظرها تماما. ولذلك فالوعدُ الإلهيُّ ليس بأي نصرٍ، بل  بنصرٍ كبيرٍ يُناسبُ نون العظمةِ ﴿حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا﴾، ﴿جَاءَهُمْ نَصْرُنَا﴾ فلْنَثِقْ بوعْدِ اللهِ وبِشَارَتِه، ولْنَسْتَمِرَّ في جهادِنا وإِصْرارِنا على إسقاطِ الانقلابِ الباطلِ ﴿حَتَّىيَأْتِيَوَعْدُاللَّهِإِنَّاللَّهَلَايُخْلِفُالْمِيعَادَ﴾.

قد يزعِجُك هذا التطاولُ من النكرات على رموزِ الأمة وتلك الحملةُ التي تُبَدِّدُ القيم وتهدُّد الأخلاق وتضرب الفطرةَ وتؤجِّجُ الأضغانَ والفتن، فتذكَّر أن من حقائقِ علمِ الاجتماعِ الإنسانيِّ أنه يستحيلُ أنْ يتكوَّن في ظلِّال استبدادِ جيلٌ محترمٌ،أو معدنٌ صُلبٌ،أو خُلُقٌ مكافح، وهذا ما ينبغي أن يُقَوِّيَ من عزائمِنا للاستمرارِ في الثورةِ لتصحيحِ هذا التشويهِ والمسخِ الذي يمارسُه الرويبضةُ تحت راية الاستبداد.

وَتَرْجُــونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُــونَ:

إذا كان أهل الحق والشرعية يتألمون بسبب ما يتعرضون له من القتل والتعذيب والاعتقال والظلم والتشويه ومصادرة الأرزاق والتضييق على المعايش والفصل من الوظائف ونحو ذلك، فإن الانقلابيين يألمون أشد الألم مما يرون من جلادة أهل الحق وصبرهم واحتسابهم الأجر من الله، ويتألمون لإحساسهم بفقدان الشرعية، ولفشلهم الذريع والفاضح في إدارة الأمور مما يؤدي لتفاقم الأزمات التي يعيشها المواطنون ويزيد من غضب الجماهير، ويتألمون للخوف الذي يقض مضاجعهم من لحظة الحساب على بحور الدماء البريئة المعصومة التي ولغوا فيها بغير حق، سواء في محاكم وطنية أو محاكم دولية، وهي لحظة آتية لا محالة إن شاء الله، ويتألمون لأن مرور الأيام يزيدهم تفككا وتصدعا، ويزيد من عزلتهم وانفضاض الداعمين عنهم، ويتألمون لأنهم يدركون أنهم إن فقدوا السيطرة على الأمور فقد خسروا الدنيا والآخرة، ولذلك يتصرفون بتوتر بالغ في المواجهة، فتزداد مظالمهم يوما بعد يوم وكل ذلك بشير بقرب سقوطهم إن شاء الله، فقدْ قضى اللهُ قضاءً لا مردَّ له فقال ﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾، وقضى سبحانه أنَّه ﴿لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾،فهل يملكُ أحدٌ أنْ يُبَدِّلَ كلمةَ الله؟.

سمع ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما كعبَ الأَحْبارِ يقول: مَنْ ظَلَمَ خَرِبَ بَيْتُه،فقال:تَصْدِيقُه في القُرْآن: ﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا﴾،وقيل: الظُّلْمُ أَدْعَى شَيْءٍ إلَى تغييرِ نعمةٍ وتَعْجيلِ نِقْمَة. وقريبًا نَرَى سقوطَ الانقلابِ الظالمِ تصديقًا لوعْدِ اللهِ إنْ شاءَ الله.

فلا يغرنكم مُضِيُّ القوم فيما يسمونه بخارطة الطريق، فهم يحاولون إيهام أنفسهم وأتباعهم بأنهم يحققون نجاحا، ويحاولون إثارة الإحباط في نفوس الثوار ، ويحاولون إيهام الخارج بأن الأمور استقرت لهم حتى يعود الخارج لدعمهم، وكلها محاولات فاشلة بإذن الله، متى استمرت إرادة الصمود والثورة لدى أصحاب الحق.

الثقة والأمل سفينة النجاة:

إن أصحاب الحق يجب أن تمتلئ قلوبهم يقينا أن كل شدة إلى زوال، وأن الشدائد إذا تناهت انفرجت، وإذا توالت تولت، وأن الله لا يغفل عما يعمل الظالمون، وأن المحنة في جوفها المنح، والعسر في طياته اليسر، وشواهد الأمور تؤكد لكل العقلاء أننا في طريقنا للنصر بإذن الله، وموقف الثورة على أرض الواقع وحراكها المستمر كفيل بتغيير كل المواقف المحلية والإقليمية والدولية .

لهذا يجب أن نستمر بكل جدية في التصدى جميعا للانقلاب والاستبداد، بصورة سلمية حضارية دون عنف؛ لأن أكثر ما يعمل الانقلابيون المستبدون على حصوله هو إثارة موجات من العنف يتخذونها غطاء لممارساتهم القمعية البوليسية التي لا يجيدون غيرها، وعلينا أن نزداد مع كل حدث يقينا بحكمة الله اللطيف لما يشاء، فنقبل عليه بالدعاء والقيام والذكر والاستغفار والتواصي بالحق والصبر، جنبا إلى جنب مع الحراك الثوري المبدع والمتجدد في الشارع.

والله الموفق والمستعان.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.