على أن تأجرني ثمانى حجج !

الكاتب : عاطف محمد


هذا مقال طويل يتألف من نحو 1400 كلمة أي ما يعادل 5 صفحات، ويتناول موضوعا في جغرافية الأديان وقد استلهمت فكرته من زيارتي جبال البحر الأحمر الأسبوع الماضي، وفي تلك الزيارة حدثني واحد من بدو المعازة عن طريقة دفع مهور الزواج في الماضي والتي لم تكن بالضرورة عددا من الإبل أو مبلغا من المال، بل كان البدوي يدفع المهر بأن يعمل أجيرا عند والد الفتاة.
وخلال استماعي للقصة تذكرت الآية الكريمة من سورة القصص التي يقول فيها رجل من أهل مدين إلى نبي الله موسى إنه يقبل به زوجا لابنته على أن يأجره ثمانى حجج.
والصورة المرفقة تعرض سدا خرسانيا أقيم على أحد أودية جبال البحر الأحمر، وللصورة علاقة وثيقة بهذا الموضوع سنعرفها في نهاية المقال.
إذا كنت مستعدا للقراءة الطويلة فأهلا بك

🔸️موسى وفرعون
يتمتع مسمى سورة “القصص” بدلالة رمزية بليغة. عنوان السورة يوحي بأنه يتناول عديدا من القصص، ولكن مضمون السورة في الحقيقة قصة كبيرة تقوم على مشهدين رئيسين:
– مواجهة موسى وفرعون وارتحال موسى في الأرض ثم عودته.
– العبر المترتبة على القصة السابقة.
لو كان الأمر بهذه البساطة فلماذا لم تحمل السورة اسم “موسى وفرعون” ؟
يبدو أن هذه واحدة من أهم خصوصيات القرآن الكريم والتي أسميتها في مقالات سابقة “تجريد الصفات الشخصية واختزال المعالم المكانية” حتى تصبح الأمثلة للناس كافة بكل ألوان شعوبها، وتصبح الأماكن كلها هي جزء من كل الأرض الخاضع لقوانين الصراع الشهير بين النور والظلام، الخير والشر، والظلم والعدل.
تستهل السورة المؤلفة من 88 آية بأنها ستتلو على القارئ (النبي الكريم والمؤمنين من بعده) أخبار موسى وفرعون. وسبب رواية السورة لهذه القصة أن فرعون علا في الأرض واتخذ من أهلها شيعا.
لا تقول السورة إن فرعون علا “في مصر” بل تقول “علا في الأرض” وهذه دلالة ذات أهمية في توصيف النطاق الجغرافي الذي كان يخضع لحكم فرعون والذي يتجاوز مصر الوادي والدلتا إلى بلاد الجنوب والشمال وعبر سيناء وشبه جزيرة العرب ويصل إلى الشام.
“الأرض” هنا في سورة القصص تشير إلى العالم القديم المعروف لساكنيه، فقبل آلاف السنين لم يكن لشعوب الشرق الأدنى مفهوم واضح عن الأرض (الدنيا أو العالم) إلا من خلال رباعية “وادي النيل- سيناء- جزيرة العرب- بلاد الشام”. وكان لسلطان مصر نفوذ على أجزاء مهمة من هذه الرباعية.

🔸️ابن الماء
بعد هذا الاستهلال عن علو فرعون في الأرض تأخذنا السورة إلى قصة نبي الله موسى من لحظة الميلاد وأن الله أوحى لأمه بأن تلقيه في “اليم” كي يأخذه آل فرعون.
التعريف الحرفي لكلمة “اليم” في مختلف القواميس ينتهي إلى أنها تطلق في العموم على كل من البحر والنهر، وتميل أغلب التفاسير إلى أن موسى ألقى وهو طفل رضيع في يم النيل أما الآية 136 التي جاءت في سورة “الأعراف” فلا مجال تفسير كلمة “اليم” فيا إلا أنها البحر الذي جاوز الله به بني إسرائيل بينما أغرق فرعون وجنوده (الأعراف 138).
لا عجب في أن يكون نهر النيل معروفا من قديم الأزل باسم “البحر” وقد حفظ التراث الشعبي عبارة “بحر النيل” في دلالة على عظيم اتساعه وقت الفيضان وانتشار مياهه على أرض واسعة قبل أن يتم في العصر الحديث “ترويضه” وحبسه في قناة مائية أحادية.

في الشهر الماضي وحين كنت في زيارة لبعض القرى الواقعة على الهامش الصحراوي في جنوب محافظة الفيوم اتصلت بأحد الأصدقاء من إحدى قرى منطقة الغرق فقال لي “انتظرني عند البحر”. تعجبت من عبارته” أين يوجد البحر هنا في هذا الهامش الصحراوي؟ ثم شرح لي أحد المرافقين أنه يقصد الترعة، وحين وصلنا لهذه الترعة وجدتها سرسوبا ضعيفا من المياه المخنوقة الآسنة.
أيا كانت دلالات كلمة “اليم” وتنوعها بين البحر والنهر فإن اسم موسى وفقا للمصادر العبرية يتألف من مقطعين بمعنى “المنتشل من الماء” أو باختصار “ابن الماء”.

🔸️مدين !
كلنا نعرف بقية القصة التي تأخذ فيها امرأة فرعون موسى من الماء يترعرع في كنف القصر الملكي حتى بلغ أشده واستوى ونهل من علوم قدماء المصريين على نحو ما تشير الآية 17 من سورة القصص من أن الله آتاه وهو في دار فرعون “الحُكْم والعِلم”.
ورغم الحكم والعلم إلا أن موسى غرته نفسه فقتل نفسا من أبناء أعداء شيعته (لا نجد في هذه السورة مسمى بنى إسرائيل أو “اليهود” ..بل مسمى “شيعة”)
ولأن موسى أدرك أن قتل النفس من عمل الشيطان سارع بأن اعترف أمام الله بأنه ظلم نفسه وطلب العفو والمغفرة. وبينما موسى ينتظر عفو الله إذ به يكاد يقع في قتل نفس جديدة حتى كاد القوم ان يفتكوا به فهرب موسى إلى “مدين”.
لا يذكر القرآن تعريفا لـ “مدين”، إذ لم يعطها مسمى “بلاد” أو “أرض” أو “قوم ” أوشعب” أو غير ذلك؟
في العصور الماضية كان قارئ القرآن يعتقد أن “مدين” هي مكان بعيد عن وادي النيل ربما في الغرب وربما في الشرق. ولكن لأن تتبع “القصص” سيصل بنا إلى جبل سيناء فإن الترجيح سيذهب بالقارئ عبر العصور إلى أن مدين هذه تقع في أرض مشرقية بالنسبة لوادي النيل.

يتعمد علم الخرائط الحديث القائم على التفسير التوراتي أن يضع “مدين” في شمال غرب المملكة العربية السعودية حاليا أو في جنوب فلسطين أو في نطاق جغرافي يشملهما معا إلى رأس خليج العقبة وربما شرق سيناء.
لا توجد أية أدلة أثرية على المكان الذي ذهب فيه موسى عليه السلام إلى “مدين” وكل ما يطرح هنا على سبيل التأويلات الدينية، وهناك من يرى أن “مدين” مجموعة قبائل متجولة لم يكن لها أرض ثابتة أو نطاق جغرافي معلوم.
يعيدنا ذلك إلى بداية السورة التي تحدثت عن أن فرعون علا في “الأرض”.
كشفت البحوث الأثرية الحديثة التي نشرتها المملكة العربية السعودية عن خراطيش ملكية لوجود مصري في شمال غرب المملكة وبصفة حاصة في منطقة “تيماء”. كما كشفت البحوث التي تقوم بها إسرائيل في شمال خليج العقبة أي في جنوب فلسطين عن معابد مصرية قرب مواقع التنجيم عن النحاس في منطقة “تمنة” او “المنيعة” التي كتبت عنها مقالين الشهر الماضي وتوجد في شمال خليج العقبة مباشرة.

🔸️ماء مدين
نعرف بقية القصة من أن موسى وصل إلى “ماء” مدين فوجد عنده عددا من الرعاة الأشداء لا يعطون الفرصة لامرأتين لكي تسقي أغنامهن. بكل قوة وشهامة شق النبي موسى طريقه بين الرعاء الأشداء وسقى أغنام المرأتين.
يستوقفنا هنا مصطلح “ماء” بشكل واضح لا لبس فيه مع كلمة “يم” ذلك لأن المقصود هنا ماء متفجر في الصحراء في شكل عيون أو ينابيع أو أنهار موسمية يتجمع حولها الرعاة للسقاية.
على الأرجح كانت هذه العيون تستمد من نظام الأمطار الأكثر انتظاما وفي ظل عدد سكان محدود مقارنة بالوضع الحالي المفرط في الضخ وعدد السكان الكبير.
تعد عيون المياه ذات أهمية كبيرة في تتبع المفسرين لجغرافية الأحداث التوراتية والقصص القرآني. وبينما تميل بعض تفسيرات الكتاب المقدس أن تحدد مواقع عيون المياه وتعطيها أسماء حديثة إلا أن القرآن الكريم لا يحدد مكانا بعينه يشير إلى “ماء مدين”.

🔸️ثمانى حجج
شيخ مدين كما نعرف يعرض على موسى أن يزوجه احدى ابنتيه على أن يعمل موسى لديه أجيرا مقابل ذلك. مراجعة سفر الخروج الذي يضم قصة النبي موسى في أهل مدين تتشابه مع الفكرة ذاتها في القرآن من حيث الاتفاق على العمل أجيرا مقابل الزواج. لكن سفر الخروج لا يحدد فترة زمنية لقضاء هذا الأجر مقابل تحديد القرآن لهذه الفترة بـ “ثمانى حجج” . ورغم أنه لا يوجد في الكتب المقدسة تفاصيل طبيعة هذا العمل إلا أن المفسرين ذهبوا إلى أن العمل هو رعي الغنم لصالح والد الزوجة واتفقوا على أن الحجة تعادل عاما كاملا. وعلى الأرجح أن العمل ثمانى سنوات كان شرطا سابقا على الزواج وليس موازيا له.

🔸️في المعازة
فهمت من الأخ البدوي من المعازة خلال رحلة البحر الأحمر الأخيرة أن هذا النوع من الأعمال يكون سابقا على الزواج وشرطا له، وضرب لي مثلا بأن شيخا طلب من شاب تقدم لابنته بأن يبني له سدا في بطن الوادي (وكان نمر وقتها في وادي بلي ) ليمنع مياه السيل من أن تضيع في البحر الأحمر، رغبة في استغلالها في الزراعة والرعي.
يقول الإخباري البدوي الذي يحدثني عن هذه الأعراف القديمة أن العمل كان لفترة زمنية تبلغ مثلا عدة أشهر أو على على الأكثر سنة كاملة، ما إن يتمها الشاب ويحقق المراد يكون قد حاز مهر المرآة ويحق له الزواج.

🔸️سد خرساني
في الصورة المرفقة مع هذا المنشور قامت الدولة ببناء سد على مخرج الوادي لتوفير المياه للزراعة والرعي في المنطقة التي يعيش فيها بدو المعازة. لم يعد أحد يقوم ببناء السدود في صورة مهور للزواج فقد تغيرت الحياة وأصبح البدو يتعاملون بالأموال تماما كسكان المدن في الغردقة وقنا ورأس غارب وينخرطون بشكل أو بآخر في النظام الاقتصادي للدولة.
🔹️🔹️
يفتح لنا هذا المقال سؤالا مهما، فبعد أن أتم النبي موسى عليه السلام ثمانى حجج سار من مدين بزوجه إلى جبل “الطور” فأين إذن هو جبل الطور في خريطة اليوم؟ هل هناك ترجيح نهائي أنه هو المقصود بهذا الاسم في جنوب سيناء؟ أم أنه ربما وجد في أرض مدين نفسها أي خارج شبه جزيرة سيناء؟ في شبه جزيرة العرب مثلا أو نهر الأردن أو رأس العقبة في جنوب فلسطين؟