من الكلام والجدل.. إلى العطاء والعمل

18 يناير 2020

بقلم: فضيلة الشيخ د. يوسف القرضاوي*

من مظاهر المراهقة في الصحوة الإسلامية: التشدق بالكلام، وكثرة القيل والقال فيما لا يَبني ولا يُجدي، على حساب العمل المنتج البنَّاء، الذي ينفع الناس ويمكث في الأرض، ولهذا المرض عدة أعراض، نتحدث عن أهمها ومنها:

الكلام عن أمجاد الماضي

من المواقف السلبية التي ينبغي أن تتجاوزها الصحوة: الإسراف في الكلام عن الماضي، والتغني بأمجاده، وما كان لنا من مآثرَ ومناقبَ، دون أن يتحول ذلك إلى عمل في تحسين الحاضر وتطويره إلى ما هو أفضل، بغية أن يكون يوم المسلم خيرًا من أمسه، وغده خيرًا من يومه.

لا أعني هنا: أن ينسى الإنسان ماضيه، وألا يتذكر مآثره، فهذا غير محمود شرعًا، ولا عرفًا، ولا عقلاً؛ فالكلام عن أمجاد الماضي حسن، إذا كان بقدر ما يدفعنا إلى مواصلة السير في طريق الأمجاد، وأن يكون لنا دور في صنع الأمجاد، لا مجرد الحديث عنها.

الكلام عن أخطاء الماضي ومآسيه

ومثل ذلك في السلبية: الكلام عن الماضي وما فيه من مآسٍ ومحنٍ، واجترار هذه الذكريات المريرة، دون السعي الإيجابي في تلافيها، أو تلافي وقوع أمثالها.

والمرء إذا عاش في هذا الجو القاتم لم يقدم شيئًا لنفسه ولا لدينه، إلا التحسر على ما فات، والوقوع في أَسرِ (لــو) المتحسرة، و(لـيــت) المتمنية، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم، وهو يرشدنا إلى معاني القوة، ويُحذرنا من أسباب الضعف-: “احرِص عَلى ما ينفَعُكَ، واسَتعن بالله ولا تعجز، ولا تَقُل، لو أنِّي فعلت كذا لكان كذا، ولكن قُل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لـو تفتح عَمَلَ الشيطان” (رواه مسلم).

الكلام عن أخطاء الآخرين

ومثل ذلك: الحديث عن أخطاء الآخرين، والإسراف في ذكرها، ولوك اللسان بها تحت عنوان: “النقد”، أو”النصيحة”، أو غير ذلك من العناوين؛ لكن النقد شيء، والغيبة شيء آخر، والنصيحة شيء، والتشهير شيء آخر؛ فهناك مَن يبحث عن الأخطاء، كأنها هواية عنده؛ فهو يفرح بها إذا وجدها ويضخمها إذا عرضها، وهو يذكر دائمًا الخطأ، ولا يذكر أبدًا الصواب، وطُوبى لمَن شغله عيبه، عن عيوب الناس، وكان “عمر بن الخطاب”- رضي الله عنه- يقول: “رَحِمَ الله امرأً أهدى إليَّ عيوب نفسي”.

الجدل العقيم

ومن السلبيات المذمومة كذلك: الاشتغال بالجدل العقيم، في مسائل لا يجدي الجدال فيها شيئًا، إلا إيغار الصدور، وتضييع الأوقات، وهو الذي أطلقوا عليه (الجدل البيزنطي)، وهو الذي حذَّر منه النبي- صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه الإمام “الترمذي”، حين قال: “مَا ضَلَّ قومٌ بعد هُدًى كانوا عليه، إلا أوتوا الجَدل” ثم تلا قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ (الزخرف: 58)، وقال بعض السلف: “إذا أراد الله بقوم شرًّا، رزقهم الجدل وحرمهم العمل”، وقد يبلغ اللدد في الخصومة ببعض الناس، حتى تراه يحاول أن يقلب الباطل حقًّا، والحق باطلاً، كما قال تعالى: ﴿وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ﴾ (غافر: 5).

ومما يدخل في هذا الجدال العقيم: الانشغال بالمسائل الخلافية بين العلماء، والتي لم تحسم في أي عصرٍ من العصور، وضيق الصدر بها، وإشعال المعارك حولها، مع أنها موجودة منذ القرون الأولى، التي هي خير القرون، وقد وسعتها صدورهم وعقولهم، ولم يضق بعضهم ببعض، ولا ينبغي أن يحاول بعضنا- ولو كان مخلصًا- رفْع الخلاف في العلم والفقه؛ لأن هذه المحاولة تزيد الخلاف، وتوسع دائرته.

الخوض في الأغاليط

ومن السلبيات المنهي عنها: البحث عن (أغاليط المسائل) ويراد بها: صعاب المسائل التي لا يُبنى عليها عَمَلٌ أو لا يترتب عليها تصحيحُ عبادة أو معاملة، أو توضيح فكرة، أو إقامة حجة أو إزالة شبهة.

وقد جاء في الصحيحين مرفوعًا: “ذروني ما تَركتكم، فإنَّما هَلَكَ مَن كَان قَبلكم بكثرةِ أسئلتِهم، واختلافِهم عَلَى أنبيَائهِم”، وعن “ابن عمر” قال: لا تسألوا عما لم يكن، فإني سمعت “عمر” يلعن من سأل عما لم يكن، وفي الحديث: أنه عليه الصلاة والسلام، “نهى عن الأغلوطات” (رواه أحمد)، وفسَّر “الأوزاعي” فقال: يعني صعاب المسائل، ويقول “الأوزاعي”: إذا أراد الله أن يحرم عبده بركة العلم: ألقى على لسانه الأغاليط، وعن “الحسن”، قال: إن شرار عباد الله: الذين يجيئون بشرار المسائل، يعنتون بها عباد الله.

الثرثرة الفارغة

ومن المذموم كذلك: الثرثرة الفارغة، والتشدق بالقول، ملء المجالس بالكلام الخالي من الفائدة، ولهذا كانت أخلاق المؤمنين في القرآن: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ (المؤمنون:3)، واللغو: كل كلام لا فائدةَ فيه، ولا جدوى من ورائه في دين ولا دنيا.

القول المخالف للفعل

ومن المذموم هنا بلا ريب: الكلام الذي لا يتبعه عمل، أو القول المخالف للفعل، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ (الصف: 2،3)، ومثل هذا المسكين تكذب أفعاله أقواله، ولا سيما إذا كان ممن نصب نفسه لدعوة الناس للخير، ومن هنا كان واجب الذين نصبوا أنفسهم للدعوة، أن يكونوا أمثلة عملية للناس بأخلاقهم وسلوكهم، لا بمجرد أقوالهم ودعاويهم، فما أكثرَ الدعوى وأعزَّ المعنى!.

ضرورة العمل

إن الصحوة الإسلامية يجب أن تشغل نفسها وفكرها ووقتها بالعمل والعطاء، لا بالجدل والمراء، وهذا ما يفرضه الإسلام في كل حين، وخصوصًا في أوقات المحن والفتن التي تصيب الأمة، وتذر الحليم حيران، يقول الرسول- صلى الله عليه وسلم-: “إنَّ مِن ورائكُم أيَّامَ الصبر، الصبر فيهن: مثل قبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله” وفي بعض الروايات: قالوا منا أو منهم ؟ قال: “بل منكم” (رواه “أبو داود” في (الملاحم)، و”الترمذي” في التفسير)، ويقول الله تعالى مخاطبًا رسوله ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (التوبة: 105).

أيكم أحسن عملاً؟

لم يطلب الإسلام مجرد العمل؛ بل طلب العمل المتقن، وجعل إحسان العمل فريضة، كما قال تعالى: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (البقرة: من الآية 195)، وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:”إنَّ الله كَتَبَ الإحسانَ عَلى كلِّ شيءٍ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذَبَحتم فأَحسِنوا الذِّبحَة” (رواه مسلم).

العمل المطلوب

ليس المهم أن نعمل؛ ولكن المهم أن نعمل صالحًا، المهم أن نحسن العمل؛ بل نسعى إلى العمل الأحسن، ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ (الملك: من الآية 2)، ومن إحسان العمل: أن نعمل الشيء في إبانه، وفي موضعه، فلا نعمله قبل أوانه، ولا نؤخره عن أوانه، وبهذا علمنا الإسلام دقة التوقيت في الصلاة والصيام، ومن إحسان العمل، أن نقدم ما حقه التقديم، ونؤخر ما حقه التأخير، ونضع كل عمل في مرتبته التي وضعها له الشرع، فلا نقدم النافلة على الفريضة،  ولا الفرع على الأصل، ولا نقترف حرامًا لنفعل مندوبًا، أو نضيع فرضًا لنتجنب مكروهًا، أو نقدم فرض العين على فرض الكفاية، أو نقدم فرض الكفاية الذي قام به عدد كافٍ على فرض الكفاية الذي لم يقم به أحدًا، أو لم يقم به من يكفي ويغني، وهذا ما نسميه (فقه الأولويات).

العمل للدين والدنيا معًا

ومن الواجب هنا: أن ندرك أن العمل للدنيا جزء من العمل بالدين، وأننا إذا أضعنا دنيانا فلن يبقى لنا دين، إن ميزة الإسلام أنه لم يفرق بين الدنيا والآخرة، ولم يقم عداوة بينهما، وقد كان نبي الإسلام- صلى الله عليه وسلم- يدعو بدعاء القرآن الجامع: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ (البقرة: من الآية 201).

المعوقات عن العمل المنشود

ولابد لدعاة الإسلام من العمل وبذل الجهد من أجل التغلب على العقبات في الطريق، والمعوقات عن العمل المنشود؛ لتمكين دين الله في دنيا الناس، عوائق خارجية، وعوائق داخلية، ومنها عائق اليأس من جدوى العمل، غير أن اليأس ليس من شيم المؤمن أبدًا، وإن اكفهرَّ الجو من حوله، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، فالمسلم الحق لا ييأس ولا يقنط وهو يعلم أن مع اليوم غدًا، وأن مع العسر يسرًا، وأن دوام الحال من المحال، وأن المؤمن لا يعمل لمجرد النجاح والانتصار، وإنما يعمل امتثالاً لأمر الله- تعالى- وقيامًا بحق عبوديته له وابتغاءً لمرضاته، وقد قلْتُ في كتابي (الحل الإسلامي فريضة وضرورة): “إن الله لا يسأل الناس يوم القيامة: لماذا لم تنتصروا؛ ولكن سيسألهم لماذا لم تعملوا؟”.

وهناك عائق المثالية الحالمة، وهؤلاء يريدون أن يبدأ العمل كاملاً، عملاقًا، ولا يمرُّ بمراحل النمو، ولا يتعرض لأمراض البيئة، وآفات الحياة، ومتاعب الطريق الطويل، وهؤلاء “لا يعجبهم العجب ولا الصيام في رجب”، فهم لا يعملون ولا يدعون غيرهم يعمل، كل ما لديهم لسان طويل على ذراع قصير، وبراعة النقد، وإخفاق العمل، وهمة الهدم، وقعود عن البناء، وفي الحديث الصحيح: “إذَا قَالَ الرَّجُلُ: هَلكَ النَّاس فهوَ أهلكهُم” (رواه مسلم).

ومن جماهير المتدينين المسلمين مَن يدع العمل لنصرة الإسلام وتمكينه في الأرض، بدعوى أننا في آخر الزمان، وفي عصر الفتن، وعلى المسلم أن يلزم بيته، ويدع أمر العامة والجمهور، فالشر أقوى من أن يقاوم، والخير أضعف من أن يصمد، والساعة على وشك القيام!! في حين أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال في حديثه البليغ: “إذَا قَامَت السَّاعَةُ وفي يَدِ أحدِكُم فَسيلةً، فإن استَطَاعَ ألاَّ تَقُوم السَّاعَةُ حتَّى يَغرِسَها، فليغرسها” (رواه أحمد)

———-
* كتاب “الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد” باختصار، وتصرف يسير.