هذا أثرٌ جليل من تراث الداعية الفقيه حسن البنا، يتناول فيه مسألة الاحتفال بليلة النصف من شعبان والأدعية والصلوات التي تُؤدى فيها، ويبين الأحكام الشرعية في ذلك كله بأسلوب علمي موضوعي رصين، يشهد بعلو كعبه في علوم التفسير والحديث والفقه وأصوله.
ثم يبين الواقع من عوام المسلمين من أخطاء وتجاوزات تتعلق بهذا الأمر ويردها إلى الصواب البيِّن من أحكام الشريعة الغراء، ثم ينتقل بفقهٍ عميق إلى الطريقة المثلى لمواجهة المنكرات والأخطاء التي تقع من عوام الناس في هذه الليلة، وهنا يبدو الفقه العميق لآداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويركز- رحمه الله- على القاعدة الشرعية العظيمة في هذا الباب وهي ألا يؤدي إنكار المنكر إلى منكرٍ أكبر منه، وأن الأمر بالمعروف لا بد أن يكون بالمعروف، وهي قواعد وآداب عظيمة غفل عنها- ولا يزال- كثيرٌ من المتصدين للدعوة والإصلاح بين جماهير المسلمين.
بسم الله الرحمن الرحيم
نُشر هذا المقال بجريدة (الإخوان المسلمون)، العدد (20) من السنة الأولى (1352م)، وأُعيد نشره بنفس الجريدة في شعبان سنة 1353هـ.
بعث إلينا أحد الإخوان بمحلة دمنة دقهلية يسأل عما ورد في ليلة النصف من شعبان، وما يفعله الناس فيها من الدعاء ونحوه، وسنجيبه- إن شاء الله تعالى- ونُذكِّر القراء َالكرام بالمنهج الذي أشرنا إليه في العدد الأول في الفُتيا من أننا نتحرى الحق جهد استطاعتنا مما بين أيدينا من المراجع والنصوص، ثم نقدمه للقراء على أنه مبلغ جهدنا واستطاعتنا؛ فمن وجد دليلاً غير ما أوردنا أو حجة غير ما وجدنا فليتقدم بذلك مشكورًا، فإن الحق يجب أن يكون طلبة الباحث وغايته، وفوق كل ذي علم عليم، والله المستعان.
الكلام في ليلة النصف من شعبان يتصل بنواحٍ ثلاث؛ أُولاها: ما ورد في هذه الليلة. وثانيها: الحق والباطل مما يعتقده العامة فيها ويتلونه. وثالثها: حكم هذا الدعاء المعروف.
أولاً: ما ورد في فضل هذه الليلة
1- قول الله تبارك وتعالى في أول سورة الدخان: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ (الدخان: 3، 4).
اختلف العلماء في الليلة المقصودة في هذه الآية الكريمة، فمنهم من ذهب إلى أنها ليلة القدر التي تكون في رمضان، ومنهم من ذهب إلى أنها ليلة النصف من شعبان، ومنهم من ذهب إلى أن ليلة القدر قد تكون في النصف من شعبان، فكأنه يريد أن يجمع بين القولين؛ وهو قول ضعيف جدًّا، لا يثبت أمام التحقيق فلندعه
ولنحصر البحث في القولين اختصارًا، فأما القول بأنها ليلة القدر فهو الراجح الوارد عن جمهرة المفسرين والعلماء المحققين، وقد تعقبوا أدلة القائلين بأنها ليلة النصف من شعبان بما يبدو أمامنا صالحًا لرده، وإليك نماذج من ذلك:
– قال الألوسي في تفسيره عند قوله تعالى: ﴿فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِين﴾: “هي ليلة القدر على ما روى ابن عباس وقتادة وابن جبير ومجاهد وابن زيد والحسن، وعليه أكثر المفسرين والظواهر معهم، وقال عكرمة وجماعة: هي ليلة النصف من شعبان”.
وقال الطبري في تفسيره عن هذه الآية الكريمة: واختلف أهل التأويل في تلك الليلة، أي ليلة من ليالي السنة هي؟ فقال بعضهم: هي ليلة القدر، ثم ذكرهم، وقال بعد سردهم: “وقال آخرون: بل هي ليلة النصف من شعبان، ولم يذكرهم”، ثم قال: “والصواب في ذلك قول من قال هي ليلة القدر؛ لأن الله- جل ثناؤه- أخبر أن ذلك كذلك”، وقد أُكد هذا المعنى في ذلك البحث نفسه.
وقال النيسابوري في تفسير الآية الكريمة أيضًا: وأكثر المفسرين على أنها ليلة القدر لقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ (القدر:1)، وليلة القدر عند الأكثر في رمضان.. ثم نقل كلام الطبري وقال بعده: وزعم بعضهم كعكرمة وغيره أنها ليلة النصف من شعبان، وما رأيت لهم دليلاً يعول عليه، فها أنت ترى من أقوال هؤلاء الأعلام أن الآية الكريمة لا تصلح أن تكون دليلاً في فضل ليلة النصف من شعبان.
2- ما ورد من أحاديث في فضل هذه الليلة، ومن ذلك:
أ- ما أخرجه بن ماجه والبيهقي في شعب الإيمان عن علي- كرم الله وجهه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: “إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها، وصوموا نهارها، فإن الله ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدنيا، فيقول: ألاَ من مستغفر لي، فأغفر له! ألا مسترزق فأرزقه! ألا مبتلىً فأعافيه! ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر”.
ب- ومنها: ما أخرجه الترمذي وابن أبي شيبة والبيهقي وابن ماجه عن عائشة قالت: فقدت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة فخرجت أطلبه، فإذا هو بالبقيع رافعًا رأسه إلى السماء، فقال: “يا عائشة، أكنت تخافين أن يحيف الله عليك ورسوله؟”، فقلت: ما بي من ذلك، ولكني ظننت أنك أتيت بعض نسائك، فقال: “إن الله- عز وجل- ينزل في ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا، فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم بني كلب”.
ج- ومنها ما أخرجه أحمد بن حنبل في المسند عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: “يطلع الله- عز وجل- إلى خلقه ليلة النصف من شعبان، فيغفر لعباده إلا اثنين: مشاحن، وقاتل نفس”.
ولو صحت هذه الأحاديث وسلمت من العلل لكانت أدلة قوية في فضل الليلة، ولكنها جميعها تكلم فيها المحدثون وأعلُوها، فمنها ما ذكروا ضعف إسناده كما قال العراقي في الحديث الأول، ومنها ما ذكروا أن في إسناده لينًا كما ذكر الحافظ المنذري في الحديث الثالث، حتى قال الحافظ أبوبكر العربي: “لا يصح فيها شيء”.
وإذ تطمئن إليه النفس أن هذه الأحاديث- مع التسليم بضعفها وتعليلها- تكفي لأن تجعل لهذه الليلة فضلاً على غيرها من ليالي هذه الشهر، وتجعل القيام بما ورد من العبادات- كقيام ليلها- قيامًا شرعيًّا، وصيام يومها صيامًا شرعيًّا، كذلك من المستحبات بناءً على قاعدة العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، بشرط ألا يُتخذ ذلك ذريعة إلى التعبد فيها بما لم يرد به دليل.
ثانيًا: عقائد العامة في هذه الليلة وعبادتهم فيها
أولاً: يعتقدون أن هذه الليلة هي الليلة التي يُفرَق فيها كل أمر حكيم، فيقضى فيها أمر السنة كلها فيما يتعلق بشئون الخلق، وقد علمت – مما تقدم- الخلاف في الليلة المقصودة بترجيح أنها ليلة القدر.
ثانيًا: يعتقدون أن من حضر الدعاء الذي يدعون به في المسجد بعد المغرب وصلى الصلاة التي ذكروها، وحضر هذا الاجتماع الذي يجتمعونه لم يمت هذه السنة، وثبَّت الله ورقة أجله، ويتشاءمون إذا فاتهم هذا الجمع، وهي عقيدة باطلة لا أساس لها من الدين ألبتة.
ثالثًا: يقرأون سورة (يس) في هذه الليلة، ويجمعون بينها وبين الدعاء بكيفية خاصة، ولم أرَ في ذلك دليلاً.. نعم، إن قراءة القرآن مستحَبة في كل وقت، ولكن تخصيص هذه الليلة سورة خاصة وبكيفية خاصة أمر لا يثبت إلا بدليل خاص، وليس عندنا هذا الدليل، ومن وجده فليأت به.
رابعًا: يذكرون أن لهذه الليلة صلاةً خاصة؛ هي مائة ركعة، يُقرأ في كل ركعة بعد الفاتحة ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَد﴾ إحدى عشرة مرة، وإن شاء صلى عشر ركعات، يقرأ في كل ركعة بعد الفاتحة مائة مرة ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَد﴾، ذكر ذلك الإمام الغزالي في الإحياء، وقال: كان السلف يصلون هذه الصلاة ويسمونها صلاة الخير، ويجتمعون فيها، وربما صلوها جماعة.
روي عن الحسن أنه قال: حدثني ثلاثون من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم- أنه من صلى هذه الصلاة في هذه الليلة نظر الله إليه سبعين نظرة، وقضى له بكل نظرة سبعين حاجة، أدناها المغفرة.. هكذا قال الإمام الغزالي في كتاب (الإحياء).
وقد تعقبه الحافظ العراقي بأن حديث صلاة نصف شعبان حديث باطل، وهو رأي جمهور العلماء فيه، بدليل أنه لم يرد في كتاب من كتب الحُفَّاظ الأثبات، ولم يسنده راويه إلى صحابي معروف، ولم يُرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد علمت أن تخصيص وقت بعبادة خاصة يحتاج إلى دليل شرعي، ولا دليل على هذه الصلاة كما رأيت.
خامسًا: الدعاء بالصيغة المعروفة، وقد أفردناه ببحث خاص لأهميته وكثرة اختلاف الناس فيه.
ثالثًا: دعاء نصف شعبان، وينقسم الكلام فيه إلى ثلاثة أقسام
(أ) صيغته:
يلاحظ بعض العلماء في صيغة هذا الدعاء أمورًا تخالف ظواهر الأدلة الشرعية، منها.
(1) نسبة التجلي الأعظم وإبرام الأمور والفصل فيها… إلى ليلة النصف من شعبان، وقد علمت رجحان أن ذلك في ليلة القدر لا في ليلة النصف.
(2) نسبة المحو والإثبات إلى أم الكتاب، وإن كانت اللوح المحفوظ فلا محو فيها ولا إثبات، وإن كان علم الله تبارك وتعالى فكذلك؛ فكيف يقال في هذا الدعاء: اللهم إن كنت كتبتني عندك في أم الكتاب شقيًّا أو محرومًا… إلخ، فامح اللهم شقاوتي… إلخ!
وقد اختلف المفسرون في تفسير الآية الكريمة: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ (الرعد: 39)، وعندي أنهم- جزاهم الله خيرًا- لو أمعنوا النظر فيما قبل الآية وما بعدها لَمَا كان ثمة داعٍ لهذا الخلاف، فقد نزلت الآيات حين سألت قريش النبي- صلى الله عليه وسلم- أن يستعجل لها العقوبة، فأنزل الله قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً﴾ (الرعد من الآية 38)، إشارة إلى أحكام البشرية عليهم- عليهم الصلاة والسلام- ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَاب﴾ (الرعد من الآية 38)، إشارة إلى أن النبي- صلى الله عليه وسلم- لا يأتي بالآيات من نفسه، ولا يستطيع ذلك إلا بإذن الله، فلا معنى لسؤاله إياه.
﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٍ﴾، إشارة إلى أن الحوادث تقع في آجالها ومواعيدها الغائبة في تقدير الله تبارك وتعالى، لا تستقدم لحظة ولا تستأخر، فلا لزوم لإرهاقهم نبيهم – صلى الله عليه وسلم- باستعجال ما لم يحن وقته بعد. ﴿يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ﴾ (الرعد: من الآية 39)، يفعل الله ما يشاء ويترك ما يشاء، يوجد ما يشاء ويعدم ما يشاء، إشارة إلى مطلق تصرفه سبحانه وتعالى في شئون الخلق إيجادًا وعدمًا، وتنبيهًا لهم إلى أن سؤال الآيات واستعجال العقوبات إنما يكون لله وحده ﴿وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ (الرعد: من الآية 39) علمه أو لوحه قد أثبت فيه ذلك المحو وذلك الإثبات على النحو الذي يقع فيه ﴿وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾ (الرعد:40).
وسواء وقع هذا الذي ثبت في أم الكتاب وجودًا أو عدمًا في حياتك، أو توفيتك قبل وقوعه فذلك لا يقدح في مهمتك؛ وهي تبليغ الشريعة، فعليك أن تبلغهم ما أمرت به، وعلينا أن نحاسبهم بعد ذلك على مواقفهم منك.
هذا التفسير للآيات مطابق لظاهرها، مُخرج لكل خلاف فيها متفق مع السياق، منسجم مع أسباب النزول بعيد عن الكلفة والتعسف فيما أعتقد، والله أعلم بمراده. وإنما عرضت له هنا أن هذه الآية الكريمة لا تصلح حجة للذين يصححون صيغة الدعاء، وعليهم البحث عن دليل آخر.
(3) سؤاله- تبارك وتعالى- محو الشقاوة والحرمان والطرد والتقتير في الرزق وإثبات أضدادها من السعادة والقبول والسعة في الرزق، وإثبات هذا الاعتراض على صيغة الدعاء… يزج بنا في مأزق القضاء والقدر؛ وهو ما يحتاج إلى بحوث مستقلة، والإمساك عنه خير، والخلاف فيه شديد، ومن ذلك نعلم أن اعتراض العلماء على صيغة هذا الدعاء مبني على خلاف شديد يتسع له مجال الرأي، وتكثر فيه مواطن الشبهات، ولا شك أن دعاءً مُجمَعًا على صيغته خير وأجدى من دعاء تُثار حوله كل هذه المشكلات.
(ب) أصله:
هذا الدعاء لم يرد في القرآن طبعًا، ولا في الأحاديث الصحيحة، وكل ما علمنا عن أصله أنه ذكر، أو بعضه قد ورد على لسان بعض الصحابة والتابعين الصالحين، قال الألوسي في تفسيره: أخرج بن أبي شيبة في المصنف وغيره عن ابن مسعود – رضي الله عنه- قال: ما دعا عبد قط بهذه الدعوات إلا وسع الله عليه في معيشته: “يا ذا المن ولا يمن عليه، يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطول، لا إله إلا أنت، ظهر اللاجئين وجار المستجيرين، ومأمن الخائفين، إن كنت كتبتني عندك في أم الكتاب شقيًّا فامح عني اسم الشقاوة، وأثبتني عندك سعيدًا، وإن كنت كتبتني عندك في أم الكتاب محرومًا مقترًا عليَّ رزقي، فامح حرماني، ويسر رزقي، وأثبتني عندك سعيدًا موفقًا للخير، فإنك تقول في كتابك الذي أنزلت: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾.
وأخرج عبد بن حميد وغيره عن عمرو- رضي الله عنه- أنه قال- وهو يطوف بالبيت-: “اللهم إن كنت كتبت عليَّ شقوة أو ذنبًا فامحه واجعله سعادة ومغفرة، فإنك تمحو ما شئت، وتثبت وعندك أم الكتاب”، وذكر مثله عن شقيق أبي وائل هذا ما ورد في آثار كثيرة عن الصحابة والتابعين في النهي عن سؤال محو الشقاوة وإثبات السعادة، نقل ذلك بن جرير الطبري عن ابن عباس من طريق سعيد بن جبير، وعن مجاهد كذلك من طرق عدة، وذكر صاحب الإبداع أنه نقل عن اليافعي أن أول ما يدعى في ليلة النصف من شعبان: “اللهم يا ذا المن ولا يمن عليه”.
هذا ما ورد في أصل الدعاء، ويلاحظ عليه ما يأتي:
(1) أنه ليس مأثورًا كله جملة واحدة عن أحد من الصحابة أو التابعين.
(2) أن فيه ما يصدم بآراء بعضهم- رضوان الله عليهم.
(3) أنه لم يؤثر عن النبي- صلى الله عليه وسلم- والدعاء بالمأثور أولى قطعًا.
(4) أننا لا نعرف درجة ثبوت نسبته إلى مَنْ نُسب إليه من الأئمة.
(ج) كيفيته:
يتلى هذا لدعاء بتلقن الإمام أو غيره عدة مرات، وهم يقولونه خلفه بأصوات عالية، مع أن كثيرًا منهم لا يفهمون معناه، ويخطئون في ألفاظه من حيث الإعراب، ويرددونه بحالة لا تدل على الخشوع أبدًا، ولا يقولونه إلا في هذه الليلة، حتى صار شعارًا لها، منسوبًا إليها، وكل ذلك مخالف للأحكام من عدة نواحٍ:
منها: (1) التخصيص الذي يحتاج إلى دليل شرعي وهو غير موجود.
ومنها: (2) فقدان الخشوع وحضور القلب والله تعالى يقول: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ (الأعراف: 55).
ومنها: (3) رفع الأصوات بهذه الحال، وقد رأى النبي – صلى الله عليه وسلم- أصحابه يرفعون أصواتهم في الدعاء، فنهاهم عن ذلك بالحديث الصحيح: “أربعوا عن أنفسكم، إنكم لا تدعون أصمًا؛ إنما تدعون سميعًا بصيرًا”.
منها: (4) أن الداعين لا يتذوقون معناه، ولا تتأثر به قلوبهم؛ ولأن يناجي أحدهم ربه بحاجته التي يشعر بها، ويجد في نفسه أثرها، أنفع وأجدى من ترديد ألفاظ ملقنة، لا يدرك معناها.
خلاصة البحث
إذا تقرر هذا علمت أن خلاصة البحث تنحصر في هذه الأمور:
أولاً: ليلة النصف من شعبان ليلة فاضلة، وإحياؤها بأي طاعة من طاعات الله وصوم يومها مستحب.
ثانيًا: تخصيصها بعبادات خاصة من قراءة (يس)، وصلاة الخير، والدعاء الخاص أمر لا دليل عليه من الشرع، فالواجب عدم التقيد به، وعدم اتخاذه شعارًا لها.
ثالثًا: هذا الدعاء الذي تعوده الناس لم يثبت أصله من الكتاب والسنة، وصيغته محل خلاف عظيم، والكيفية التي يلقيه الناس بها مخالفة للأحكام الشرعية.
خاتمة
الناس في ليلة النصف من شعبان قسمان:
– قسم يتحمس لهذه التقاليد الموروثة تحمسًا عظيمًا، ويدافع عنها دفاعًا قويًّا، ويلتمس لأصحابها الحجج والمعاذير، ومنهم فريق من أئمة المساجد ومن أهل العلم، وهؤلاء أقول لهم: “عليكم أن تلاحظوا الأقوال الشرعية قبل ذلك، فإنكم بلا شك ستتركون هذا الحماس”.
– وقسم يتحمس ضدها تحمسًا عظيمًا كذلك؛ فيحقر من شأنها، وينحي باللائمة على فاعليها، وقد يؤديه ذلك إلى السب والشتم، بل إلى الاشتباك أحيانًا، وهؤلاء أقول لهم: “عليكم أن تلاحظوا الذين يفعلون ذلك؛ إنما يفعلونه لأنهم يعتقدون أنه من الدين، فهم حَسَنُو النية، وحَسَنُ النية لابد من الرفق معه، وإن هذا المظهر من المظاهر الدينية يوقظ في المسلمين روح الشعور بالإسلام والحماس له، ومقاومته بهذه الوسائل من التحقير والعنف يهدم في نفوس العامة ما بقي فيها من تقديس الدين واحترمه، ويقوي دعاية الخروج على الدين والاستهتار به، وإذن فيكون ضرر هذه المقاومة أشد من نفعها”.
والذي يوجبه الدين على كل مسلم استخدام الحكمة في الأمر والنهي، ولا سيما في المظاهر التي تتعلق بأعمال الجماهير مجتمعة، فإنها أحوج ما تكون إلى حسن السياسة ودقة المسلك، فعلى الرعاة والمرشدين واجب قدسي؛ هو أن ينشروا هذه الأحكام بين الناس في ظل التعليم الصحيح، والحب الخالص، وتبادل شعور العطف، والتعاون في البحث عن الحقيقة.. وبمرور الزمن والدأب على الإرشاد يتعرف الجمهور الحق، فيعود إليه، والله الهادي إلى سواء السبيل.