14 يناير 2020
بقلم: ماجد هلال
لقد تمثلت العبودية الكاملة والتامة لله- عزَّ وجلَّ- وعدم التعلُّق بشيءٍ سواه في الرسول صلى الله عليه وسلم، وظهرت آثارها بوضوحٍ في طريقة تعامله مع أصحابه، فلم يربطهم يومًا ما بشخصه، بل ربط الجميع بالله عز وجل.
فمن أقواله التي تؤكد هذا المعنى: “ما أوتيكم من شيء ولا أمنعكموه، إن أنا إلا خازن، أضع حيث أُمِرت” (رواه أحمد)، وقوله لأصحابه: “بل الله يخفض ويرفع، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحدٍ عندي مظلمة” (رواه أبو داود).
ولقد كان يُبايع بعض الصحابة على ألاَّ يسألوا الناس شيئًا؛ فعن عوف بن مالك قال: كنا عند رسول الله سبعة أو ثمانية أو تسعة فقال: “ألا تبايعون رسول الله؟” وكنا حديثي عهد ببيعته فقلنا: قد بايعناك، فعلامَ نبايعك؟ قال: “تعبدون الله ولا تشركون به شيئًا، وتصلون الصلوات الخمس، وتسمعون وتطيعون، وأسرَّ كلمةً خفية: ولا تسألوا الناس شيئًا”، قال: فلقد كان بعض أولئك النفر يسقط سوطه فما يسألُ أحدًا يناوله إياه (رواه مسلم).
وعن ابن أبي مليكة قال: كان ربما سقط الخطام من يد أبي بكر فيضرب بذراع ناقته فينيخها، فيأخذه، قال: فقالوا له: أفلا أمرتنا نناولكه؟ قال: إن حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني ألا أسأل الناس شيئًا (رواه أحمد).
وفي مكة عندما اشتدَّ الإيذاء بأصحابه، جاءه خباب بن الأرت في يومٍ من الأيام يتحدث معه في هذا الأمر، فانظر فيما حدثه.. لم يحدثه في مساعدة أهل الجوار، وأصحاب النفوذ، ومن لهم كلمة على أهل مكة، بل كان طلبه يعكس مدى تعلّقه التام بالله عز وجل، فعن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال: “كان الرجل فيمَن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فَيُجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين وما يصدّه ذلك عن دينه، ويمشَّط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه..” (رواه البخاري).
وبعد أن فتح الله مكة لرسوله وللمؤمنين، ذهب النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة غداة الفتح المبين، وقد نُكست الأصنام، واندحرت الجاهلية، وفرَّ بقايا سدنتها هاربين هائمين، ووقف أبو سفيان بن حرب الذي أسلم على عجَل يرقُب المشهد، ويصرخ في أعماقه حديث نفسي صامت لا يجرؤ على إعلانه، يقول لنفسه: بم غلبني هذا الرجل؟ وانطلقت خواطره أو هواجسه كالبرق الخاطف في المقارنات والموازنات المكتومة، وفجأة ترك النبي صلى الله عليه وسلم الطواف، وضرب على صدره وقال: “غلبتك بالله يا أبا سفيان”.
ولقد كان الصحابة يعيشون بكيانهم مع هذه الحقيقة، وتشكَّلت عقولهم وتصوراتهم بناءً عليها، ووصل إيمانهم بها إلى الدرجات العلا، وانعكس ذلك على أدائهم وحركتهم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، فلقد انطلقوا بعدها في الأرض ليكملوا مسيرته صلى الله عليه وسلم في دعوة الناس والعمل على تحريرهم من العبودية لغير الله، ويمثله نموذج قول ربعي بن عامر لرستم قائد الفرس عندما سأله عن سبب مجيئهم: “جئنا لنخرج مَن شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة”.
من هنا نقول إن جوهر الإصلاح الذي ننشده في أنفسنا وفي الآخرين هو التحرر من العبودية لغير الله.. هو التعلُّق به وحده.. والتحرر من أسر قيود التعلق بغيره.
فالحرية الحقيقية هي التحرر من كل سجن ومن كل قيدٍ يُقيِّد الإنسان، فالذي يتعلق بنبي أو ولي فهو مقيَّد به، مسجون فيه، والذي يتعلق بمذهب أرضي فهو سجنه، والذي يتعلق بشهوةٍ فهو أسيرٌ لها، والذي يتعلق بنفسه فهو عبدٌ لها، والذي يتعلق بمنصبٍ فهو مسجون فيه، مقيَّد به، والذي يتعلق بماله أو ولده فهو مقيد ومعذَّب بهم.. ﴿فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ (التوبة: من الآية 55).
أما العبودية لله عز وجل فهي الحرية الحقيقية؛ لأن الإنسان إنما خُلق ليكون عبدًا لله فقط، وكل شيء حوله فهو خادم له.. مُسخَّر من أجله.. ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾ (الجاثية: من الآية 13).
وإدراك المرء هذه الحقيقة يغير رؤيته للأشياء من حوله سيراها على حقيقتها مُسخَّرةً له، تعمل من أجله بلا أجرة، ولا تملك له نفعًا ولا ضرًّا، فيزهد فيها، وتنصرف رغبته عنها وطمعه فيها، فيتعامل معها بهدوء وسكينة، ويستخدمها كأدواتٍ خادمة له، أتاحها له ربه كأسباب تتيسَّر من خلالها الحياة على الأرض، كما جاء في الأثر: “يا ابن آدم، خلقت كل شيء لك، وخلقتك لنفسي، فلا تنشغل بما خلقته لك عمَّا خلقتك له”.
إن العبودية لله تحمل السعادة الحقيقية، والشعور بالحرية مما سواه، والعز في الاستغناء عن غيره.
ولذلك فإن الدعوة التي ينبغي حملها للعالمين هي فك قيود التعلق بغيره؛ فالدنيا مليئة بالسجون المعنوية التي تكتظ بالبشر، وتحُول بينهم وبين الحرية الحقيقية، أما خارج تلك السجون حيث الحرية والسعادة والسكينة فلا يوجد فيها إلا قليلون.
فالواجب الأول على أمة الإسلام أن تُنقذ البشرية المُعذبة الحائرة التائهة السجينة، التي تتخبَّط في الظلام.
وغنيٌّ عن البيان أنه لا يمكن للأمة القيام به إلا إذا كان أبناؤها في عافيةٍ دائمة، وحرية حقيقية من كل قيد وتعلق بغير الله.