كتبه عامر شماخ :
هو القاضى حسن الهضيبى. تم انتخابه مرشدًا عامًا للجماعة يوم 19 من أكتوبر 1951. توفى –رحمه الله- يوم 11 من نوفمبر 1973، وقد تعرضت الجماعة فى فترة رئاسته لهزات يشيب لها الولدان، إلا أنه كان صلبًا قويًا، عزيز النفس، ذا مروءة وإباء.
وأنا إذ أتعرض لقضية المصالحة مع الطغاة التى تُطرح على الساحة الآن بشكل مكثف؛ ألمح إلى موقف الرجل -الذى حُكم عليه بالإعدام وقد جاوز السبعين من عمره، وهده المرض- من هذه القضية، وقد تشابهت الظروف وقتها مع ظروفنا الآن إلى حد كبير..
- رغم المحن والابتلاءات التى تعرض لها الإخوان على يد العسكر؛ فإن الهضيبى رفض استخدام القوة مقابل هذا الإرهاب الرسمى، من منطلق فقهى وفهم راق؛ مثل قوله مخاطبًا أعضاء الجماعة: (إن ظُفر أحدكم أغلى من رقبة عبد الناصر نفسه. حذار أن يعطى أى واحد منكم الفرصة لهؤلاء ليتخذوها فرصة للقضاء على هذه الفئة المؤمنة، اصبروا وصابروا حتى يأتى الله بأمره)..
- وهذا الموقف الأصولى لم يكن يعنى –أبدًا- استسلامًا أو سلبية، أو سلمية عاجزة خائرة كما يظن البعض؛ ذلك أن مجرد وجود الرجل على رأس الجماعة سبب صداعًا مزمنًا لعبد الناصر وزبانيته؛ لصلابته وجرأته، وثباته على الحق، واستعلائه بإيمان ملأ كل جوانحه.. جاءت رسالة من إخوانه بسجن الواحات، يستفتونه فى رغبة البعض منهم فى تأييد عبد الناصر بغية الخروج من السجن؛ فرد عليهم الهضيبى بقوله: (إن الدعوات لا تقوم على الرخص، وعلى أصحاب الدعوات أن يأخذوا بالعزائم، أما الرخص فيأخذ بها الصغار، وأنا لا أقول بالأخذ بالرخص، ولكن أقول لكم: اثبتوا، وخذوا بالعزائم وتشبثوا بها)..
- ومن منطلق عقائدى وإيمان صادق لم يطلب الرحمة من جلاده، ولم يتورط فى قول أو عمل لأجل أن يتصدق عليه هذا الجلاد بحرية مكبلة، أو إفراج مشروط، واقرءوا تلك الواقعة… (فتح نظام عبد الناصر فى فترة الستينيات الباب أمام الإخوان المسجونين للتظلم؛ فكان رأى الهضيبى: أنا شخصيًا لن أرفع قضية تظلم؛ لأنه بينى وبين الله عهد ألا أسأل مخلوقًا شيئًا، وهذا ليس عنادًا، لكنه عهد بينى وبين الله. لن أطلب حاجة من غير الله، يفرج عنى يفرج عنى، يبقينى فى السجن يبقينى، إنما الباب مفتوح أمام الإخوان؛ فمن أراد أن يتظلم فليتظلم، ومن لم يرد فله ما يرى، لكن بشرط ألا يتبرأ أحد من دعوة الإخوان المسلمين؛ لأن التبرؤ منها (ردة)، ولا يوافق على حكم الظالمين؛ لأن هذا له حكم شرعى)…
- بل إنه كانت تُعرض عليه المصالحة تلو المصالحة من جانب العسكر؛ فيعرض عنها ساخرًا من الرسل الذين ييعثونهم إليه؛ أوفدوا إليه فى إحدى المرات محمد فؤاد جلال، وزير الإرشاد القومى وقتها، وكان صديقًا له؛ ليساومه فى شأن الإفراج عنه وعن الإخوان شريطة أن يصدر بيانًا لـ (تهدئة الخواطر) –كما قال الوزير الموفد.. فجاء رد الهضيبى بليغًا ومسكتًا لجلال؛ حيث قال إنه لا مانع لديه من إصدار البيان، لكنه يرغب فى تمكينه من لقاء الإخوة الستة الذين أُعدموا شنقًا قبل اللقاء بشهور. وعاد الموفد بخفى حنين؛ لقد فهم العسكر استحالة المصالحة من جانب الإخوان؛ إذ جملة الهضيبى تلك تعنى: إذا خرج هؤلاء الستة من قبورهم سوف أصالحكم…
- أما فى سجنه فقد أيأس الطغاة فى لينه وخضوعه لهم؛ رغم ما أنزلوا به وبإخوانه من البلاء.. فى يوم ترحيله من السجن الحربى إلى منزله سمعه الإخوان يقول للضابط: (من قال لكم إنى أريد أن أخرج من السجن؟ أنا آخر واحد يخرج، فليخرج كل الإخوان قبلى).. بل لا نبالغ إذا قلنا إنه كان خطرًا على الطغاة وهو مكبل فى سجنه، وهو فى سن وصحة تسمحان له بالترخص.. دخل عليه يومًا صلاح الششتاوى، رئيس أركان الداخلية، محافظ القاهرة فيما بعد؛ فوجده واضعًا ساقًا على ساق –كعادته- فغاظه ذلك، فأراد –فى ظنه- أن ينكأ عليه الجراح فقال له: يعجبك ما أنت فيه؟ قال: نعم يعجبنى، قال الششتاوى: ويعجبك وضع هؤلاء؟ -وأشار إلى الإخوان، قال: هل اشتكى أحد منهم لك؟ عندما يشتكى أحد منهم تعال وأخبرنى. وفى اليوم التالى تم نقله إلى السجن الحربى؛ تفاديًا لخطورته التى تمثلت فى (رفع الروح المعنوية للإخوان!!)…
- وقد نهى –رحمه الله- إخوانه عن التضعضع والهلع أمام الطغاة؛ فيعاتب أحدهم وكان يصلى بهم إمامًا، وكان يبكى بصوت مسموع عندما يمر بآيات العذاب؛ فيؤكد الأخ أن ذلك أمر اعتاده عند تلاوته لكتاب الله؛ فيأمره بكتم أناته (لئلا يظن الطغاة أننا نبكى ضعفًا وخورًا مما جرى لنا)…
- بل هو من رفض الخروج من السجن قبل التحقق من بطلان الاتهامات: وذلك فى موقف مشهود وقع فى مارس 1954؛ حيث سارع إلى إعلان أنه لن يقبل الإفراج -فضلا عن أن يتعهد بأى شىء فى مقابله- إلا بعد أن تُمحص الاتهامات الجزافية، أو بعد أن تعلن قيادة الثورة بطلان التهم والاعتذار عن الاعتقال…
رحم الله الإمام الهضيبى، القاضى المرشد، أسد الدعوة وحارسها…