الحكمة من نزول البلاء .. وتعامل النبي معه .. بقلم د/السرجاني

اللهُ حكيمٌ في أفعاله، رحيمٌ بعباده، يبتليهم بالبأساء والضراء لحكمةٍ منه، فمن مصلحة الخلق أن يُبتلوا بالبأساء والضراء من أجل أن يخضعوا لربهم ويتذللوا له ويتوبوا إليه، يقول تعالى: “وما أَرسَلنا في قَريَةٍ مِن نَبِيٍّ إِلّا أَخَذنا أَهلَها بِالبَأساءِ وَالضَّرّاءِ لَعَلَّهُم يَضَّرَّعونَ” [الأعراف: 94].

وحريٌ بالعباد عند نزول البأساء والضرر بهم من فقرٍ أو جوعٍ أو خوفٍ أو أوبئةٍ ونحوها أن يتضرعوا إلى الله بالدعاء، ويُنيبوا إليه بالطاعة، ويتوبوا عما هم عليه من ذنوبٍ وآثامٍ، لعل الله يرحمهم فيكشف ما نزل بهم، وليحذروا أن يكونوا ممن قال الله فيهم: “وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ” [المؤمنون: 76].

والعبادُ إذا استمروا على ما هم عليه من باطل، ولم يُنيبوا ويتوبوا إلى الله، فقد يُستدرجون، فيفتح الله عليهم أبواب الرزق والنعم، حتى إذا أصابهم البطرُ، واستولى عليهم الإعجابُ بما مُتِّعوا به، جاءهم عذابُ الله فجأةً، فيقول تعالى: “فَلَمّا نَسوا ما ذُكِّروا بِهِ فَتَحنا عَلَيهِم أَبوابَ كُلِّ شَيءٍ حَتّى إِذا فَرِحوا بِما أوتوا أَخَذناهُم بَغتَةً فَإِذا هُم مُبلِسونَ” [الأنعام: 44].

وقد يُبتلى العبدَ ليذوق حلاوة الإيمان، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “فمن تمام نعمة الله على عباده المؤمنين، أن ينزل بهم الشدة والضر، ما يلجئهم إلى توحيده، فيدعونه مخلصين له الدين، ويرجونه ولا يرجون أحدًا سواه، وتتعلق قلوبهم به لا بغيره، فيحصل لهم من التوكل عليه، والإنابة إليه، وحلاوة الإيمان، وذوق طعمه، من هو أعظم نعمة عليهم من زوال المرض، أو حصول اليسر وزوال العسر في المعيشة”.

السنة النبوية في التعامل مع البلاء

لقد تعرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للكثير من الأذى والمحن في مواقف متعددة من حياته، وكان ذلك على قدر الرسالة التي حملها، فقريش أغلقت الطريق في وجه الدعوة في مكة، وتعرضت له ولأصحابه بالسخرية والإيذاء، وحوصر مع أصحابه ثلاث سنوات في شِعب أبي طالب، الذي لاقوا فيه الجوع والحرمان، والنَصَب والتعب الشديد، ومع ذلك كله فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ماضْ في طريق دينه ودعوته، صابرٌ لأمر ربه، إشفاقًا على قومه أن يصيبهم مثل ما أصاب الأمم الماضية من العذاب، وليكون قدوة للمسلم في كل زمان ومكان في الصبر على البلاء

وسُنة الابتلاء في حياة وسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- يعبر عنها ورقة بن نوفل في أول يوم من أيام النبوة حين قال: “يا ليتني فيها جذعا إذ يخرجك قومك، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: أومخرجي هم؟!، قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك حيا أنصرك نصرًا مؤزرًا”، رواه البخاري.

ومع تربيته -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه على الصبر على الابتلاء، كان يبث التفاؤل والثقة في قلوبهم، ويفيض عليهم مما أفاض الله عليه من أمل مشرق في انتصار الإسلام وانتشاره، فقال: “إن عِظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط”، رواه الترمذي.

وإذا كان الإيذاء والابتلاء قد نال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام، فلم يعد هناك أحد لفضله أو علو منزلته أكبر من الابتلاء والمحن، فتلك سنة الله مع الأنبياء والمؤمنين، وعلى ذلك ربى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه، ومن ثم فينبغي على المسلم الثبات على دينه ودعوته، فلا يضعف أو يحيد عن طريق الله إذا ما عانى شيئًا من الأذى والابتلاء، فقد سبقه في ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وليعلم أنه كلما اشتد الظلام أوْشك طلوع الفجر، وكلما ازدادت المحن والابتلاءات، قرب مجيء النصر.

نسأل الله أن يوفق جميع المسلمين للتوبة والإنابة والتضرع إلى الله القوي العزيز، القادر المقتدر، الرحيم الغفور.

د. راغب السرجاني