مواجهة العسكر للحكم المدني ما بين الليندي ومرسي

فى عام 1973 أطاح انقلاب عسكري في تشيلي بحكم سليفادور الليندى الحاكم اليساري المنتخب عام 1970 طبقا للدستور، تم ذلك فى مشهد دموي سجله التاريخ، انتهى بقتل “الليندي” والآلاف من المتمسكين بشرعية الرئيس المنتخب.

وفى عام 2013 أطاح انقلاب عسكري ناعم بحكم محمد مرسي الحاكم المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين المنتخب عام 2012 طبقًا للدستور، وتم ذلك فى مشهد دموي انتهى باعتقال “مرسي” وقتل وحرق الآلاف من المتمسكين بشرعية الرئيس المنتخب.

ما بين التجربتين تشابهات تصل إلى حد التطابق واختلافات ثانوية فى الشكل والتفاصيل، إلا أنها كلها تفضي إلى نتائج واحدة، ربما نصل إليها فى نهاية المقال.

الليندي واليسار السلمي

  دون الدخول فى تفاصيل معقدة حول تاريخ “الليندي” فى العمل السياسي فى شيلي، نشير فقط إلى طبيعة رؤيته ورفاقه في كيفية تغيير السلطة الفاشية الغاشمة المستغلة ومواجهتها كمعارضين، هذا مع وضع اعتبار لطبيعة المجتمع الشيلي، ووضع اعتبار أكثر للصيغة الفكرية لسيلفادور الليندي وجماعته، هذه الصيغة التي تشكل توليفة متناقضات ما بين الثورية اليسارية والإصلاحية السلمية!

كان الليندي يساريًا ماركسيًا فى وقت كانت الماركسية تقود حركة المعارضة والتغيير فى أمريكا اللاتينية بأساليب ثورية يغلب عليها الطابع المسلح، خاصة فى ظل الأنظمة العسكرية، أو التى يهيمن عليها العسكر الموالون للغرب، ورغم ذلك كان “الليندي” من المؤمنين بإمكانية تطبيق الاشتراكية من خلال النظام القائم، والذي يناهضه، وهي الفكرة التي سيصبح امتدادها الوصول السلمي للسلطة، ومن أهم مخاطر هذه الفكرة أنها تجعل من المعارضة جزءًا أصيلًا من النظام الذي تناهضه، وتتحول أدواتها إلى أدوات مهذبة مقلمة أظافرها بالقواعد الدستورية والقانونية للنظام، فيؤدى هذا كله، وعلى امتداده إلى هيمنة النظام وسيطرته على حركة المعارضة، باعتبارها جزءًا منه وليس باعتبارها منافسًا له.

ما علينا التجربة الشيلية بها شىء من التعقيد، خاصة أنها تنطلق من مجتمع مختلف بطبيعته تمامًا عن المجتمع المصري، إلا أن الشاهد العام يؤكد أن رحلة “الليندي” ورفاقه السياسية، والتي استندت على التغيير السلمي والوصول السلمي للسلطة بدأت مبكرًا من خلال تحالف اشتركى وسطى شارك فيها الاشتراكيون فى الحكم بقوة تأثيرهم في المجتمع، وهو ما فرض على النظام القبول بمشاركاتهم، وتولى “الليندي” في بعض الفترات مناصب وزارية، وبحكم طبيعة الشعوب فى أمريكا اللاتينية وثقافتها وتأثيرات التجارب الثورية فيها كان هناك صعود ملحوظً للاتجاه الاشتراكي بكل جوانبه وتحالفات كل التشكليات الماركسية في مواجهة البرجوازية والفاشية، ومع هذا الصعود والتحالفات أصبحت فكرة المنافسة على السلطة من خلال الصندوق الانتخابي فكرة مقبولة لدى الاشتراكيين، رغم تعارضها مع القواعد الفكرية للأيدولوجيات الاشتراكية.

ومنذ نهاية الخمسينيات خاض “الليندى” ورفاقه التجربة، وكانوا في البداية قاب قوسين أو أدني من الوصول للسلطة، إلا أن نتائج الانتخابات التالية أبعدتهم تمامًا عن القرب من السلطة، وهو ما دفع الاشتراكيين إلى العودة للأصولية الماركسية التي ترى حتمية الوصول للسلطة عن طريق الثورة، وليس الصندوق الانتخابي، إلا أن “الليندي” أصر على مبادئه المتعلقة بالتغيير الديمقراطي عبر صناديق الاقتراع، وكانت أدواته في هذا أدوات ليبرالية ديمقراطية بعيدة عن الأدوات الثورية، والتي كانت متميزة فى أمريكا اللاتينية ودول الجوار، وسنقفز على تفاصيل كثيرة لنصل إلى عام 1970 ونجاح “الليندي” في الوصول للحكم عبر الدستور والانتخابات محاطًا بدعم جماهيري كبير، وفي نفس الوقت بظروف دولية غير مواتية في ظل رفض القوى الأمريكية الصاعدة لوصول الليندي لسدة الحكم، وتهديد مصالحها فى المنطقة، وساعد على تفعيل إرادة الجماهير وقوف الجيش على الحياد بسبب إيمان قائده آنذاك رينيه شنادر، بعدم تدخل الجيش فى السياسة، وهو ما جعل الليندى يطمئن للمؤسسة العسكريية لوجود “شنادر” على رأسها،  إلا أن الوثائق كشفت بعد ذلك عن صرف الولايات المتحدة ملايين الدولارات لمنع وصول “الليندي” للحكم، وكانت وراء العديد من المؤامرات، أهمها اغتيال “رينيه شنادر” قبيل تصديق البرلمان على انتخاب “الليندي”، وانتقد المؤرخون الاشتراكيون إصرار “الليندى” على الالتزام بنفس الأدوات الديمقراطية والليبرالية وعدم تفعيل الأدوات الثورية في مواجهة المؤامرات المحيطة، وظل يحكم البلاد بنفس أدوات المؤسسة السابقة، وقام بنفسه بتعيين “أوغسطو بينوشيه” قائدًا للجيش، ووثق فيه وقلده أرفع الأوسمة، وهو نفس القائد الذي انقلب عليه بدعم من الولايات وحاصر قصره، مما أصاب “الليندي” بإحساس الخيانة والغدر ورفض تسليم نفسه والخروج الآمن من القصر الرئاسي، ومات وهو مرتديًا وشاحه، وهو ما اعتبره البعض أشبه بالانتحار نتيجة إحساسه بالغدر والخيانة، فهو لم يفقد الثقة فى “بينوشيه” لحظة قبل الانقلاب.

قام الانقلاب بأكبر مذبحة فى ذلك الوقت قتل فيها الآلاف من أنصار شرعية الرئيس المنتخب “سليفادور الليندي” الذي دفع حياته وحياة الآلاف ثمنًا لوهم الوصول السلمي للسلطة عبر صندوق الانتخابات في ظل هيمنة القوى العسكرية، وتخليه عن التغيير الثوري الذي سبق وأن نجح في كوبا.

من سيلفادور الليندي لمحمد مرسي

ننتقل لما بعد 2011 في مصر، والحقيقة لن أخوض كثيرًا في تاريخ معلوم للجميع، ولكنى سأتعرض لعدة مشاهد:

المشهد الأول: حركة المعارضة السياسية للنظام العسكري الحاكم في مصر مرت منذ عام 1952 بعدة مراحل أثرت تأثيرًا سلبيًا على تكوينها وجعلتها معارضة مشوهة، خاصة في ظل تغلل أجهزة النظام العسكري والتي برعت في اختراق التشكيلات السياسية المختلفة والتأثير في تواجهاتها تارة بالمؤامرة وتارة بالبطش والاعتقال، سواء كانت هذه الاتجاهات يسارًا أو جماعة الإخوان المسلمين، وكان الغرض هو تهميش أية فكرة تتعلق بمدنية الحكم في مصر واستمرار سيطرة العسكر.

المشهد الثاني: الحكم العسكري في مصر تعرض لعدة تهذيبات وتطويرات في تكوينه بعد المتغيرات التي شهدها العالم، والتي حولت نظرة العالم  للأنظمة العسكرية إلى نظرة سلبية باعتبارها أنظمة معادية للديمقراطية، وهو ما جعل أنور السادات في منتصف السبعينيات يعود إلى نظام التعددية الحزبية ليجاري المتغيرات العالمية، وكانت منذ نشأتها أحزابًا هيكلية تحمل ملامح ديمقراطية باهتة، وظل جوهر الحكم عسكريًا في المضمون في ثوب مدني وهمي.

المشهد الثالث: المعارضون السياسيون وقعوا قصدًا أو بدن قصد في وهم إمكانية تغيير السلطة من الداخل، فتحولوا من أحزاب ثورية إلى تكوينات إصلاحية تتحرك طبقًا للسقف الممنوح لها من النظام الحاكم، خاصة اليسار الذي كان يطرح نفسه كقوى للتغيير الاجتماعي.

المشهد الرابع: يرتبط بعودة جماعة الإخوان المسلمين للساحة السياسية، ورغم الشد والجذب بين النظام وبين المعارضين سواء من اليسار أو الإخوان أو الليبراليين الجدد، إلا أن النظام نجح في تدجين كل هذه الاتجاهات وتحويلها إلى اتجاهات إصلاحية وجزء من السلطة، وليست تكوينات يمكن أن تشكل بدائل محتملة لها، واستمر هذا بتفاوتات حتى حكم مبارك.

المشهد الخامس: يتعلق بالانهيار الشديد في المجتمع على جميع النواحي الاقتصادية والاجتماعية والفساد والقمع الأمني، والذي أصاب الشعب بإحباط شديد، خاصة الشباب الذين لم يفقدوا الأمل في النظام الحاكم فقط وإنما حتى في كل تشكيلات المعارضة، وبدأ الشارع فى إفراز تشكيلات معبرة عنه مثل “6 إبريل” و”كفاية”، وهنا تجاوزت حركة الرفض في الشارع الأحزاب المعارضة، بل إن كثيرًا من الشباب كانوا ينظرون لهذه الأحزاب نظرة سلبية باعتبارها جزءًا من النظام .

المشهد السادس: بدأ مع ثورة الشعب المصري في 25 يناير2011 إلا أن أهم مفصل في هذا المشهد يوم تنحى حسني مبارك فى 11 فبراير 2011، واحتفال المتظاهرين والمعتصمين بسقوط النظام!! فهل سقط النظام؟

المشهد السابع: يتعلق بتسليم الزمام لجنرلات مبارك العسكريين من خلال مجلسهم العسكري، وبدء مباراة مخابراتية بين أجهزة الدولة المباركية العميقة والقوى السياسية التي لم تجتمع إلا على هدف إزاحة مبارك، واختلفت فيما بينها حول طبيعة الدولة وطبيعة نظام الحكم، وتسلم المجلس العسكري الحكم، وكما ذكرت بدأت مباريات الوقيعة بين الشباب والأجيال الأخرى، وما بين الاتجاهات المدنية والإخوان والاتجاهات الإسلامية، وشهدت هذه الفترة عدة مذابح عنيفة للشباب في الشوارع ونشر حالة من الرعب والعنف تجاه أى صوت معارض في الشارع بحجة الحفاظ على النظام، وإتاحة الفرصة للحوار مع الصفوة من الاتجاهات السياسية استعدادًا للانتخابات وتهافت الجميع على المجلس العسكري الذي نجح في الوقيعة بين كل الاتجاهات.

صناديق الاقتراع في مواجهة التغيير الثوري

وصلت جماعة الإخوان للحكم عن طريق صناديق الاقتراع، ورغم أن هذه التجربة جاءت عقب ثورة شعبية، إلا أن الجميع نحى الأدوات الثورية، وتنافسوا على السلطة بنفس أدوات النظام السابق ومن خلال مؤسساته، ووقع الحاكم الجديد محمد مرسي فى نفس الخطأ الذي وقع فيه “سيلفادور الليندي” عام 1973، ولم يستخدم أى وسائل تغيير ثورية في المجتمع، بل تعامل بنفس قواعد ومحددات النظام السابق، وحتى مشهد صعود الرئيس محمد مرسي بقائد الجيش عبد الفتاح السيسي ثم قيام هذه القائد بالانقلاب على الحكم بمذبحة دموية أشبه بنفس المشهد الذي صعد فيه سيلفادور الليندي بقائد الجيش أوغسطو بينوشي  وانقلابه عليه من خلال مذبحة دموية.

التفاصيل كثيرة والمؤامرة متشابكة، إلا أن الحقيقة الثابتة أن الإطاحة بأية سلطة غاشمة فاشية لن يكون أبدا عبر صناديق الانتخابات والطريق الديمقراطي، وإنما عن طريق ثورة شعبية تكون قيادتها من الشعب وليست من أوساط النخب والصفوة، أما الديمقراطية فهي أداة للعمل اليومي لابد من تطويعها لخدمة الثورة وليست هدفًا في ذاته.