كيف تزرع الحب

دعوتنا دعوة حب، كلمة رائعة لخصت منهج التربية عند الإخوان المسلمين، قالها المربي الراحل الأستاذ عباس السيسي رحمه الله وهو  يشارك في تربية الجيل الذي حمل الدعوة بعد المحنة، ولم تكن كلمة عابرة، بل كانت سمتاً وخلقاً ومنهجاً لهذا الجيل من المربين الكبار، أمثال الأستاذ مصطفي مشهور، والأستاذ محمد العدوي، والأستاذ  حسن جودة، والشيخ أبو الحمد ربيع وغيرهم.

لقد كانوا يغرسون الحب في قلوب الإخوان بأفعالهم قبل أقوالهم، وكانوا نماذج راقية في الأخوة والحب وحسن الظن والإيثار وحسن الخلق والمروءة، فالتربية عندهم ليست كلمات رنانة، ولا شعارات خلابة، ولكنها سلسلة متواصلة من المواقف العملية،  والسلوكيات الفعلية،التي تخلق المشاعر الإيجابية؛  فتزيد الألفة،  وتقوي الود، وتنمي الحب، وتصنع بحق رابطة القلوب قبل رابطة التنظيم.

لقد كانت عاطفتهم حيةحارة، ومشاعرهم يقظة متدفقة، كانوا يحبون إخوانهم حقاً كما يحب الأب أبناءه، ويسعون في مصالحهم كما يسعي الأب في قضاء حوائج أبنائه؛ بل إن فرحهم لفرح إخوانهم لا يدانيه فرح، وحزنهم لما يصيب إخوانهم من هم أو ضيق لا يمكن مداراته، لقد عاشوا لإخوانهم ودعوتهم أكثر مما عاشوا لأنفسهم؛ فلا غرو أن تجد لذكراهم أثراً حسناً في العقول والقلوب.

وأنت أيها المربي الأب؛ لابد أنك تستشعر الأمانة والمسئولية عن  تربية هذا الجيل الذي يمثل أمل هذه الدعوة المباركة ومستقبلها، ولابد أنك تدرك خطورة المهمة التي تقوم بها، وتدرك أيضاً عظم الأجر الذي ينتظرك من الله تعالي إن أنت أحسنت التربية، وأحسنت البناء، خاصة في هذه المرحلة الدقيقة من عمر الدعوة، ومن تاريخ الأمة، تلك المرحلة التي تموج بالحوادث والخطوب، وتواجه فيهاالدعوة والأمة أشد المخاطر، وأكبر التحديات.

وأول ما يعينك أيها المربي  في تحقيق مهمتك بعد توفيق الله تعالي والاستعانة به أن تغرس الحب في قلوب إخوانك… حباً لله تعالي تفني فيه ذواتهم حتي يستصغروا من أجله الدنيا وما فيها، وحباً لرسوله صلي الله عليه وسلم يفوق كل حب في هذه الدنيا، وحباً للدين والعقيدة يدفع إلي العمل من أجلها والتضحية في سبيلها، وحباً للإخوان لله وفي الله  يجمع بين قلوبهم ويصهرهم في بوتقة واحدة، ويجعلهم نسيجاً واحداً قوياً متماسكاً.

ولا تظنن أيها المربي  أن هذه المهمة  سهلة يسيرة يمكنك تحقيقها بين عشية وضحاها، أو أنها يمكن أن تتحقق بكلمة عابرة، أو موعظة مؤثرة. إنها ليست كذلك أبداً،  ولكنها حياة متصلة، وحركة دائبة، ومعاناة دائمة، ومعايشة مستمرة، فكن لهم أباً حقيقياً، وأعطهم من قلبك أولاً حتي يسري الحب من قلبك  إلي قلوبهم؛ فالإناء لا يفيض إلا إذا امتلأ، وفاقد الشيئ لا يعطيه، ومن لا يحب، لا يمكنه أن يغرس الحب، واعلم أن كل ما يصدر عنك من حركة أو سكنة أو لفظة أو التفاتة أو إيماءة أو موقف يؤثر فيهم، ويرسم ملامح شخصياتهم، فانظر كيف تريد أن تراهم في المستقبل فاعمل لأجله، ومن يزرع يحصد.

وغني عن البيان أيها المربي أن الأب يفكر في مستقبل أبنائه أكثر مما يفكرون هم لأنفسهم، فإذا أردت أن تكون لهم أباً حقيقياً؛ فاشغل نفسك بحاضرهم ومستقبلهم، وفكر في أحوالهم تفكيراً إيجابياً يستهدف حل المشكلات، وتذليل العقبات،  وصقل المواهب، وليكن ديدنك التحفيز والتشجيع، وبث الأمل وتقوية العزائم، واستعن بضرب الأمثلة وقصص النجاح القريبة، من إخوانك الذين تعرفهم، وقرب إليهم البعيد، ويسر لهم العسير، وحبب إليهم الكفاح، وانقل إليهم خبراتك وتجاربك في الدعوة  وفي الحياة، واصبر عليهم صبراً جميلاً، وانتقل بهم من حال إلي حال في أناة وتؤدة، ولا تعجل عليهم، ولا تبطئ عنهم. واغمرهم بعطفك وحنانك ومشاعرك، قبل أن تشغلهم بأفكارك و تعليماتك وأوامرك.

وغني عن البيان أيها المربي أن الأب يصاحب أبناءه إذا بلغوا مبلغ الرجال؛ فإذا أردت أن تكون لإخوانك أباً حقيقياً فعليك أن تصاحبهم؛ فتقترب منهم قرب الصاحب من الصاحب، والصديق من الصديق، وتعرف علي دخائل أنفسهم، ومسارب أفكارهم، وتعرف علي همومهم ومشكلاتهم، وآمالهم وآلامهم، وشاركهم مشاعر الفرح والحزن، وشاركهم التفكير في المستقبل، ولاتضع لهم سدوداً ولا قيوداً،  واجعلهم يشعرون في قرارة أنفسهم أنك الساعد والعضد، وأنك الظهر القوي الذي يستندون إليه، والمرفأ الآمن الذي يفزعون إليه. واجعلهم يبثونك شجونهم، ويشاركونك مشاعرهم، واصدق الله في الجهد من أجلهم، والنصح لهم.

وغني عن البيان أيها المربي أن الأب يشغل نفسه كثيراً بالعلاقة بين أبنائه؛ ويبذل جهداً كبيراً كي تكون هذه العلاقة قوية متينة لا تشوبها شائبة، ولا يعكر صفوها شيئ، ولا يغمض له جفن إن رأي كدراً في هذه العلاقة، حتي يعيدها إلي صفائها ونقائها، فإذا أردت أن تكون لإخوانك أباً حقيقياً؛ فاحرص علي  تنمية الحب لبعضهم، وتقوية أواصر الأخوة بينهم، ولا تدخر وسعاً في إزالة كل أسباب الجفاء إذا وجدت، وبادر إلي ذلك عندما تطل برأسها، ولا تسوف ولا تؤجل ولا تتواني ولا تتراخي، ولا تترك مشكلة بينهم بغير حل، وعلمهم كيف يمكن أن تختلف العقول وتأتلف القلوب في آن واحد، وعلمهم فقه التغافر والتسامح،  وعلمهم  عملياً كيف يكون الإيثار، وكيف تكون مواقف الرجولة في مواطن الشدة، وعلمهم كيف يقول الأخ لأخيه: إني أحبك في الله، وعلمهم كيف يقدر الأخ حب إخوانه له حق قدره، وينزلهم من قلبه المنزلة التي يستحقونها. كما كان الحسن البصري يقول: إخواننا أحب إلينا من أهلينا؛ لأن إخواننا يذكروننا بالآخرة، وأهلنا يذكروننا بالدنيا.

وغني عن البيان أيها المربي أن الناس جميعاً يحتاجون إلي الحب والتقدير حاجتهم إلي الطعام والشراب والنوم، وأن إحساس الإنسان بحب من حوله يدفعه إلي الإنجاز والنجاح، ويعينه علي تحمل الصعاب وتخطي العقبات، خاصة أصحاب القلوب الرقيقة، والمشاعر المرهفة، فلا تبخل علي إخوانك بهذه العاطفة النبيلة الجياشة؛ فإنها تمثل لهم حافزاً للنجاح، ودافعاً  قوياً للإنجاز، وعاملاً مهماً يصبرهم ويعينهم علي تحمل مشقة الطريق، وطول السفر، وبعد الغاية، وقلة المعين. فأكثر من زيارة إخوانك، وتعهدهم بالسؤال، وأظهر لهم التقدير والاحترام والحب، خاصة في المجامع، وبين الأهل والأصحاب، فإظهار التقدير لهم يأسر قلوبهم ، ولا ينقص شيئاً من قيمتك وقدرك، وكسب القلوب أولي من كل كسب، وقيمة القلوب أعلي من أي قيمة.

ومن حبك لإخوانك أيها المربي أن تستر عيوبهم، وأن تأخذ بأيديهم إلي طريق الصواب، وأن تصبر علي علاجهم صبر الطبيب الحاذق الأريب، ومن حبك لهم أن ترد غيبتهم، وتدفع عنهم الأذي، وتغلب حسن الظن، وتَذْكُرهم بخير فعالهم، وتذكر  لهم ما تعلمه من أياديهم البيضاء وأعمالهم الصالحة، ومن حبك لهم أن تختفي بينك وبينهم لغة الحساب والعتاب، واعلم أن بينك وبينهم أرحاماً لك منها حق؛ رحم الإنسانية، ورحم الإسلام، ورحم الدعوة، ورحم الأخوة، ورحم المسئولية؛ فصل كل رحم بما يناسبها.