في ذكرى وفاة فارس المنابر الشيخ عبد الحميد كشك نتذكر بعض أقواله

في ذكرى رحيل الشيخ كشك.. فارس المنابر ونزيل السجون

عالم وداعية مصري عرف باهتمامه بشؤون البسطاء وجرأته على تحدي الحكومات والسخرية من عالمَي السياسة والفن. وقد قادته خطبه النارية إلى السجون والفصل من الوظائف ، نافس نجوم شرائط الكاسيت في السبعينيات والثمانينات، طافت شهرته الآفاق داخل مصر وخارجها

“هنا مدرسة محمد، البر لا يبلى والذنب لا ينسى والديان لا يموت، اعمل ما شئت كما تدين تدان، سيدي أبا القاسم يا رسول الله، صلى عليك الله يا علم الهدى ما هبت النسائم وما ناحت على الأيك الحمائم، أما بعد فيا حماة الإسلام وحراس العقيدة”.

لم يرتبط المصريون بمقدمة خطبة جمعة كما ارتبطوا بهذه الكلمات للشيخ عبد الحميد كشك، الذي لقب بفارس المنابر، وتحل اليوم ذكرى مولده.

كشك الذي نافست تسجيلاته نجوم شرائط الكاسيت في السبعينيات والثمانينيات، طافت شهرته الآفاق داخل مصر وخارجها، وأصبحت خطبه تُسمع في الشوارع عبر المحلات ووسائل المواصلات، وبات مسجده “عين الحياة” بالقاهرة أشهر مساجد مصر التي تجذب المصلين يوم الجمعة، بل حرص العديد من الزائرين العرب على حضور خطبته ورؤية هذا الشيخ الذي غزا صوته كل الدول العربية.

ورغم الجماهيرية الكبيرة والشعبية الجارفة الناتجة عن بلاغته واشتباكه مع الأحداث الجارية ونقده اللاذع للسياسيين والفنانين وكبار المشاهير، فإن هذه الجماهيرية جرّت عليه انتقادات واسعة، حيث رأى فيه خصومه مثالا على التشدد وابتذال منبر الجمعة في سفاسف الأمور، رغم اعترافهم بقدراته الخطابية. 

النشأة والنبوغ
ولد عبد الحميد عبد العزيز محمد كشك في العاشر من مارس/آذار 1933 في قرية شبراخيت بمحافظة البحيرة شمال القاهرة، حيث نشأ يتيما وفقد بصره في مرحلة مبكرة من حياته، لكن فقدان البصر لم يمنعه من التفاعل مع المجتمع وكثيرا ما كان يقول عن نفسه، مستشهدا بقول الصحابي عبد الله بن عباس:

إن يأخذِ الله من عينيّ نورهما .. ففي فؤادي وعقلي عنهما نورُ

تلقى كشك تعليمه الابتدائي في المعهد الأزهري بالإسكندرية، وأتم حفظ القرآن الكريم في الثانية عشرة من عمره، وحصل على الثانوية وحل في المرتبة الأولى على مستوى الدولة، رغم أنه كفيف البصر. التحق بالأزهر ونال منه الشهادة العالِميّة عام 1961 ثم تخرج في كلية أصول الدين عام 1964.

أثناء دراسته الثانوية والجامعية أبدى كشك نبوغا وتفوقا في العلوم الدينية واللغة العربية مما أهله لاعتلاء المنابر الدعوية وتصدر الأنشطة الطلابية، حيث انخرط في النشاط الدعوي والاهتمام بمشاكل الناس في مرحلة مبكرة من عمره، وقد خطب في قريته إماما وعمره لم يتجاوز الثانية عشرة.

بعد تخرجه في الأزهر عين معيدا بكلية أصول الدين ولكنه سرعان ما استقال من الوظيفة، وعين رسميا إماما وخطيبا لمسجد “عين الحياة” بمنطقة حدائق القبّة في القاهرة، وهناك -ولنحو عشرين عاما- عرف المصريون والعرب الشيخ عبد الحميد كشك.

ألّف الشيخ كشك تفسيرا للقرآن في تسعة مجلدات تحت عنوان “في رحاب التفسير”، وله أكثر من ألفي خطبة مسجلة جمعها تلامذته في كتب بينها: شعاع من نور الإيمان، وفي رحاب السكينة، وروضة الروح، وأحاديث الجمعة ومواعظها.

توفي في القاهرة يوم الجمعة 6 ديسمبر/كانون الأول 1996، وتقول عائلته إنه توفي ساجدا، وإنه كان يدعو الله دائما أن يقبض روحه وهو ساجد. 

معادلة النجاح
يعزو البعض شهرة كشك إلى البلاغة والكاريزما وخفة الظل، لكنها لم تكن الأسباب الوحيدة لصناعة أشهر خطيب وداعية مصري، إذ يمكن أن يضاف لها اشتباكه الحاد والجريء مع الأحداث الجارية ونقده اللاذع لكبار المشاهير، فالأسماء الكبيرة تصنع الأحداث والأخبار الكبيرة.

كما لا يمكن إغفال السياق السياسي والاجتماعي، فتلك الفترة شهدت ما يُعرف بالصحوة الإسلامية وإقبال المصريين على المظاهر الدينية وارتفاع صوت الدعاة والخطباء بعد سنوات الناصرية التي جففت فيها المظاهر الدينية، كما أن ثقافة هذه المرحلة الزمانية كانت ثقافة صوتية تعتمد على الراديو وشرائط الكاسيت قبل انتشار التلفاز ومن بعده الإنترنت.

وهكذا اجتمعت لكشك معادلة النجاح -أو كما يقول المصريون “سر الطبخة”- من بلاغة و”كاريزما” وخفة الظل، مع نقد حاد وساخر للمشاهير واشتباك مع الأحداث اليومية بجراءة وشجاعة، مع تعطش الجمهور إلى الدين وارتفاع صوت التيار الإسلامي، فضلا عن سياق ثقافي اجتماعي جعل من الصوت وسيلة التواصل والاتصال التي لا تنافسها وسيلة أخرى.

الثقافة الصوتية دفعت الكاتب الراحل أنيس منصور إلى وصفه بأنه “كشك فون”، وذلك ردا على وصف كشك لأنيس منصور بأنه “إبليس مسطول”، بسبب انتقاده لأنباء حول توقف شركة مصر الطيران عن تقديم الخمور على رحلاتها.

كشك والسياسية
كان كشك ناقما على الأوضاع السياسية في مصر خاصة فيما يتعلق بالظلم الاجتماعي، وكان يردد دائما “لو وزع الظلم إلى 100 جزء لكان في مصر 99 جزءا، وجزء واحد لبقية الدنيا، ومع ذلك يأتي هذا الجزء مساء ليبيت في مصر”.لم يسلم سياسي من نقد الشيخ كشك بطريقته الساخرة اللاذعة، فكان يقول عن الرئيس أنور السادات “لا نور ولا سيادة”، وحسني مبارك “لا حسن ولا بركة”.

أما عهد الرئيس جمال عبد الناصر فنال نصيبا وافرا من نقد كشك، خاصة فيما يتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان داخل السجون، وكان يردد دائما أسماء المسؤولين عن السجون الحربية -التي كان كشك أحد نزلائها- مثل حمزة البسيوني الذي وصفه بالطاغية البسيوني، ونقل أن البسيوني وقف في السجن الحربي ينادي بأعلى صوته “لو نزل الله من السماء لحبسته انفراديا”.

وانتقد كشك إعدام نظام عبد الناصر المفكر الإسلامي سيد قطب بقوله “يشنقون الرقاب التي قالت لا إله إلا الله، وعبد الوهاب يغني له تسلم يا غالي”، في إشارة إلى أغنية للمطرب والملحن المصري محمد عبد الوهاب تزامنت مع إعدام قطب.

وفي مذكراته “قصة أيامي”، يحكي أن المشير عبد الحكيم عامر -الذي كان الرجل الثاني في عهد عبد الناصر- طلب منه أن يستغل شعبيته في الهجوم على سيد قطب وأن يحلّ دمه، لكنه رفض مما أدى إلى اعتقاله بعدها بأيام ليقضي في السجن نحو عامين ونصف.

علق كشك على وفاة عبد الناصر بقوله: “يوم مات طرق بابي طارق، وقال لقد مات فلان، فأعد نفسك لأنك ستعتقل الليلة، وقلت سبحان الله أشقى به حيا وميتا”.

وفي عهد السادات واصل كشك انتقاد السلطة السياسية خاصة فيما يراه مضادا للدين والأخلاق، ونالت السيدة الأولى جيهان السادات انتقادات واسعة بسبب تدخلها في قوانين المرأة والأسرة، إلا أن النقد تحول إلى هجوم حاد على السادات نفسه بعد توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل عام 1979 وزيارته للكنيست الإسرائيلي.

وفي اعتقالات سبتمبر/أيلول 1981 الشهيرة، كان الشيخ عبد الحميد كشك من أبرز المعتقلين الذين تنوعوا من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، لكن السادات قُتل بعد شهر تقريبا ليخرج كشك من السجن ليس إلى المنبر كما تعود، لكن إلى البيت، حيث لم يسمح له بارتقاء المنبر في عهد الرئيس حسني مبارك، حتى وفاته عام 1996.

كشك والفن
علاقة كشك بالفن كانت أكثر إثارة من علاقته بالسياسية، وجلبت عليه هجوم المثقفين والإعلاميين المصريين، لكنها كانت في الوقت نفسه من أهم أسباب شهرته بين المصريين.

خص كشك المطربة أم كلثوم بالعديد من التعليقات اللاذعة، ومن أشهر تعليقاته عليها حينما غنت “خدني في حنانك خدني” قوله بالعامية المصرية “امرأة في الستين عمرها تقول خدني في حنانك خدني، يا شيخة ربنا ياخدك”. 

ومن طرائفه في التعليق على أغاني عبد الحليم حافظ، قوله إن عبد الحليم “لديه معجزتان: الأولى أنه أمسك الهواء بيديه والثانية أنه يتنفس تحت الماء”، وذلك في إشارة إلى مقاطع من أغانيه “ماسك الهوا” و”إني أتنفس تحت الماء”.

وسخر من أغنية فايزة أحمد “يامّا القمر على الباب”، بقوله “شفتم عمركم القمر بيبقى عطشان؟ روسيا طلعت القمر، وأميركا طلعت القمر، وإحنا القمر بتاعنا على الباب”. كما سخر من المثل عادل إمام بقوله “دعونا الله أن يرزقنا بإمام عادل، فرزقنا بعادل إمام”.

ونقل في إحدى خطبه عن واقعة بينه وبين الشاعر عبد الرحمن الأبنودي أثناء الاعتقال، حيث عرفه الأبنودي بنفسه بصفته مؤلف أغنية “تحت الشجرة يا وهيبة”، فسخر منه كشك بالقول “إسرائيل تستورد طائرات إف 15 و16 وإحنا تحت الشجر يا وهيبة، يا أخي أُف منكم”.

وأصدر كشك كتاب “كلمتنا في الرد على أولاد حارتنا”، هاجم فيه الأديب المصري نجيب محفوظ بعد حصوله على جائزة نوبل في الآداب عام 1988 عن روايته “أولاد حارتنا” التي اعتبارها كشك -مع العديد من العلماء وقتها- تمس المقدسات الإسلامية.

وخاض معركة مع محمد عبد الوهاب بعد أغنية “جئت لا أعلم من أين” باعتبارها إلحادا، وقال “هل من الإسلام أن يتساءل عبد الوهاب مندهشا أو معترضا، جايين الدنيا ما نعرف ليه؟ ألا يعلم الجميع لماذا جئنا إلى الدنيا وأننا إلى الله ذاهبون؟”.

مثير للجدل
تفاعل الشيخ كشك مع الأحداث الجارية وشعبيته الجارفة جعلا منه مثارا للجدل بين مؤيد ومعارض، فيقول عنه المفكر الإسلامي محمد عمارة “كان الشيخ كشك من ألسنة الحق في مجتمع غابت عنه الكلمة الشجاعة، وكان له تأثير غير عادي في الجمهور، إن مزية الشيخ كشك أنه كان يمزج الكلمة الأصولية وفقه الواقع المعيش، ولم يخش في الله لومة لائم، كان فارسا مغوارا”.

وحين سأله الصحفي سليم عزوز في حوار موسع: ما قولك في ما هو منسوب إليك من أنك لا تلتزم بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن أسلوبك في الخطاب يقوم على السب والقذف؟

رد الشيخ كشك شارحا منهجه وأسلوبه: لكل مقام مقال، هو ربنا عندما قال “كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث” كان بيشتم! “كمثل الحمار يحمل أسفارا” كان بيشتم؟!

وأضاف مدافعا عن نفسه “لقد كانت خطبة الجمعة تستغرق قرابة الساعة، فمن يمكنه أن يصعد المنبر ويظل ساعة يشتم، دا يبقى متخرج من كلية الشتيمة! لكن معظم من يتقولون علي لم يسمعوني”المصدر / الجزيرة نت