فضل العشر الأوائل من ذي الحجة وحاجة الأمة إليها

الكاتبة عزة مختار :

تطل علينا اليوم أيام مباركة خصها الله عز وجل بخصائص قلما تشاركها في بركتها أيام وليال أخري ، والأمة اليوم في أمس الحاجة للدعاء والتقرب إلي الله لرفع الغمة والمحنة التي تمر بها ، علاوة علي الضنك الذي يعيش به الناس وحاجتهم لتغيير الواقع المر الذي يحيونه ، وقد أفاض الله علي أمته بهدايا منها علي سبيل المثال شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ، يضاعف فيه الأجر والحسنات ، السنة فيه بأجر فريضة ، ومنها تلك الليالي العشر من ذي الحجة ، والتي أقسم بها الله عز وجل في كتاب للفت نظر المسلمين لأهميتها وكرامتها وبركتها ، فقال سبحانه ﴿ وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾ [الفجر: 1، 2]، والذي عليه جمهور المفسرين من السلف والخلف أن الليالي العشر المقسم بها هنا هي عشر ذي الحجة ، وإنما أقسم الله بها ليبين للناس عظيم قدرها وشرفها، وقيل: إنها العشـر التي أتمها الله لموسى عليه السلام، قال تعالى: ﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴾ [الأعراف: 142]  ، قال ابن عباس: هي ذو القعدة وعشر من ذي الحجة ، وقال تعالي ” وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَام ” قال ابن عباس ، المعلومات هن أيام العشر ، فمما تميَّزت به هذه الأيام كذلك أن فيهـا موسم الحج الذي هو الركن الأعظم في الدين، والذي يهدم ما كان قبله من المعاصي والآثام، ومما تميَّزت به هذه الأيام أيضًا: أن العمل الصالح فيها يضاعـف أجره وثوابه؛ لأنها من الأشهر الحرم التي عظمها الله عز وجـل؛ قال الله تعالى: ﴿ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [التوبة: 36]؛ أي: لا تظلموا فيهن أنفسكم بارتكاب الذنوب؛ لأن الله سبحانه إذا عظَّم شيئًا من جهة واحدة، صارت له حُرمة واحدة، وإذا عظَّمه من جهتين، أو جهات، صارت حرمته متعددة ؛ قال سهيل بن أبي صالح: اختار الله الزمان، وأحب الزمان إلى الله الأشهر الحرم، وأحب الأشهر الحرم إلى الله ذو الحجة، وأحب ذي الحجة إلى الله العشر الأول . ومما خُصَّت به هذه الأيام كذلك: أن العمل الصالح فيها أحب إلى الله من العمل في سائر الأيام، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ
وفيها يوم عرفة الذي هو أعظم الأيام، فعن عَائِشَةُ قالت: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ .
وفيها يوم النحر الذي هو أجلُّ الأيام، فعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ يَوْمَ النَّحْرِ عَمَلًا أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ هِرَاقَةِ دَمٍ، وَإِنَّهُ لَتَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَظْلَافِهَا وَأَشْعَارِهَا، وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَكَانٍ، قَبْلَ أَنْ يَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ، فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا”.
العبادات المستحبة في تلك الأيام
 لقد أدرك السلف الصالح ومن تبعهم قيمة تلك الأيام فتنافسوها في الخير والعمل الصالح ، وكان سعيد بن جبير – رحمه الله – “إذا دخل أيّامُ العَشْرِ اجتهد اجتهادًا شديدًا، حتّى ما يكاد يقدر عليه” . وعبادة الله في كل وقت ، لكن بعض الأيام تفضل دون غيرها ، ولها مكانة أعلي منها ، وبداية العمل فيها يجب أن يبدأ بالتوبة إلي الله ، فلا يوجد إنسان لا يخطئ ، ومن يستهين بالصغائر يهلك وأدناها التقصير في جنب الله وكلنا مقصرون
فعلى المسلم استقبال هذه الأيّام بالتّوبة والإقلاع عن جميع الذّنوب والمعاصي، حتّى يترتّب على أعماله المغفرة والرّحمة والتّوفيق، وإذا كانت الطّاعات سببا في القرب والودّ، فإنّ المعاصي سبب في البعد والطّرد، فكانت التّوبة الصّادقة النّصوح متأكّدة في هذه الأيّام، كما أنّها واجبة في كلّ وقتٍ ومِن كلّ ذنبٍ ، قال الله – تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ ،وقال – عَزّ مِن قائل: ﴿ فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ﴾ ، وقال – سبحانه: ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ﴾. ، ومن الأعمال المستحبة كذلك الاجتهاد في العمل الصالح ، ومِن قوله – صلّى الله عليه وسلّم: ((مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ العَشْرِ)). فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ: وَلاَ الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: وَلاَ الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ))
ومنها كذلك صلاة النّافلة، وقيام اللّيل، وصيام النّهار، وتلاوة القرآن، والصّدقة، وإفشاء السّلام، وإطعام الطّعام، والإصلاح بين النّاس، والإحسان إلى الجيران، وإكرام الضّيف، وإماطة الأذى عن الطريق، وزيارة المرضى، وقضاء حوائج النّاس، والصّلاة على النّبي – صلى الله عليه وسلّم – وإسباغ الوضوء، والدّلالة على الخير، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وسلامة الصّدر وترك الشّحناء، وتعليم الأولاد والبنات.
ومن الأعمال الأكثر أهمية الصلاة لما تنطوي عليه هذه العبادة مِن ذِكرٍ لله – تعالى – وقرآن ودعاء، فيتأكّد علينا المحافظة على هذه العبادة الصِّلة بيننا وبين ربّنا – عزّ و جلّ – أمّا المكتوب مِنها، فالمحافظة عليه فرضٌ واجبٌ في كلّ حين، وأمّا نَفلها، فالمستحبّ الإكثار مِن الصّلوات المسنونة بكلِّ أنواعها قدر المستطاع، مِن صلاة الرّواتب، وقيام اللّيل، والضّحى.
 فإنّ صلاة النّوافل ينجبر بها ما نقص من الفرائض، وهي مِن أسباب رفع الدّرجات، ومحو السّيئات، وإجابة الدّعوات؛ وسعِد مَن نال حظًّا مِن قول نبيّنا – صلى الله عليه و سلّم – وقد تَقدَّم – فيما يرويه عن ربّه: ((وما يزال عبدي يتقرّب إليَّ بالنّوافل حتّى أُحبَّه)) ، وأيّ حبّ أعظم، وأجمل وأسعد، وأبقى وأطيب، مِن حبِّ الله لعبده المؤمن؟!
إن من لم يستطع أداء فريضة الحج يمكن أن يكون له فرصة أعظم من ثوابِ الحجّ، إذا حسُن مقصده وصلُح عملُه، قال ابن رجب الحنبلي – رحمه الله: “لمّا كان الله سبحانه قد وضع في نفوس المؤمنين حنينًا إلى مشاهدةِ بيتِه الحرام، و ليس كلُّ أحدٍ قادرًا على مشاهدتِه في كلِّ عام؛ فرض على المستطيع الحجَّ مرّةً واحدة في عمرِهِ، وجعَل موسمَ العشرِ مشتركًا بين السّائرينَ والقاعدين، فمَن عجَزَ عن الحجِّ في عامٍ؛ قدَرَ في العشرِ على عملٍ يَعْمَلُهُ في بيتِهِ يكونُ أفضلَ مِن الجهادِ الّذي هو أفضلُ مِن الحجِّ”
ومن تلك الأعمال أيضا الصّيام فهو مِن أفضل الأعمال الصّالحة الّتي وردت النّصوص الكثيرة في بيان فضله، وقد أضافه الله إلى نفسه لعِظم شأنه وعلوّ قدره؛ فقال – سبحانه وتعالى – في الحديث القدسي: ((كُلُّ عَمَلِ ابنِ آدمَ له، إلاّ الصّومُ. فإنّه لي وأنا أجزي به))
وعليه فيُسنّ للمسلم أن يصوم التّسع الأوائل مِن ذي الحجة، لأنّ النّبي – صلى الله عليه وسلّم – حثّ على العمل الصّالح فيها – أوّلاً – وكان يصومـها – ثانيًا – فعن بعض أزواج النّبي – صلى الله عليه وسلـم: ((أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم كان يصومُ يومَ عاشوراءَ، وتسعًا مِن ذي الحِجّة، وثلاثَةَ أيّامٍ مِن الشّهرِ؛ أوَّلَ اثْنين مِن الشَّهرِ؛ وخَمِيسَيْنِ)) ، وفيها صيام يوم عرفة حيث جاء في فضل يوم عرفة أحاديث؛ مِنها ما ورد عن عَائِشَة – رضي الله عنها – أنَّ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلّم – قَالَ: ((مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ. وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلائِكَةَ. فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلاءِ؟)). قال النوويّ: “هذا الحديث ظاهِر الدَّلالة في فضل يوم عَرفة، و هو كذلك”
ومن العبادات في الأيّام؛ أيّام ذِكرٍ لله – سبحانه وتعالى – بجميع أنواعه: مِن قراءةِ قرآنٍ، وتكبيرٍ، وتسبيحٍ، وتهليلٍ، وتحميدٍ، ودعاءٍ، واستغفارٍ؛ قال الله – عزّ وجلّ – في آية الحجّ: ﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ﴾ ، قل البخاري في صحيحه عن ابن عباس – رضي الله عنهما – في تفسير (الأيّام المعلومات)، قوله: “﴿ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ﴾: أيّامُ العشر. والأيّامُ المعدودات: أيّامُ التّشريق”. ، ومنها تلاوة القرآن فهو أخصّ الأذكار وأعظمها، تتنزّل بسببها السكينة، وتَحفُّ قارئَ الكتابِ ملائكةُ الله – عزّ وجلّ.يقول تعالي
 إِنّ الّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصّلاَةَ وَأَنْفَقُوا مِمّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لنْ تَبُورَ * لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِن فَضْلِهِ، إِنّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ وفي حديث عبد الله بن مسعود – رضي اللّه عنه – أنّ رسول اللهِ – صلّى الله عليه وسلّم – قال: ((مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، والحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لاَ أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلاَمٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ))
 ومن العبادات كذلك التكبير والدعاء وصلة الأرحام وتفقد الفقراء مما لا تتسع الصفحات لذكره ، فتلك فرصة وهدية عظيمة بعد شهر رمضان المبارك بلغنا الله ذكرها وشكرها وقيامها وصيامها وتقبل الله منا دعائها برحمته إنه ولي ذلك وهو عليه قدير