جمعة امين

استقلال الشخصيَّة الإسلامية

من تراث الأستاذ./ جمعة أمين عبدالعزيز

إن أهم ما قدمته الرسالة المحمدية أنها كونت للعرب الذين انبعث الإسلام من أرضهم وبلسانهم، وعلى يد رجل منهم يأكل مما يأكلون ويشرب مما يشربون- أقول- كوَّنت لهم شخصية إيمانية مستقلَّة، لا شرقية ولا غربية.

شخصية ذات عقيدة راشدة، ورسالة ماجدة، وخلق فاضل، وفكر ناضج، وعقل مستنير، شخصية لا تفرق بين جنس وجنس ولا بين لون ولون، جمعت بين أبي بكر القرشي وسلمان الفارسي، وصهيب الرومي، وبلال الحبشي، يتفاضلون بالتقوى ويُعرفون بالصدق والاستقامة.
وهذا كله يرجع إلى سبب بسيط هو أن الإسلام يقوم على التجرد من التبعية في الفكر والتصور، وفي الحركة والاعتقاد، وقصة تحويل القبلة إحدى أساليب القرآن في تربية الأمة المسلمة وإظهار الشخصية المستقلة، فلقد تربَّى الصحابة بالقرآن، وتجاوب معهم الوحي، وتجاوبوا مع الوحي، حتى أصبح خلُقُهم القرآن، مقتدين برسولهم صلى الله عليه وسلم.

لقد كان تحويل القبلة أولاً عن الكعبة إلى المسجد الأقصى لحكمة تربوية ربانية، أشارت إليها الآية ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (البقرة: 143) فكانت تمحيصًا للرجال وتثبيتًا للأقدام.

فلقد أراد الله- وهو أعلم بمراده- أن يستخلص القلوب إليه ويجردها من كل شيء بعد أن تخلصت من عبادة الأصنام التي كانت حول الكعبة، وعبدوا الله وحده بعد أن قدروه حق قدره، فكان من مقتضى إخلاصهم أن يتجردوا لله في وجهتهم، كما تجردوا في عبادتهم، فكانت قبلتهم إلى المسجد الأقصى حتى لا يشوب التوجه إلى الله عصبية أو عنصرية أو قومية، وليظهر صدقهم وطاعتهم لله وللرسول صلى الله عليه وسلم، بعد أن تحرروا من عواطفهم وميلهم القلبي المشوب بالشرك قبل إسلامهم، فكان توجههم استسلامًا لأمر الله فتوجَّهوا حيث أمرهم، وفي هذا الوقت ذاته بدأ اليهود في الاستكبار وأخذهم العجب والعجز لاتخاذ قبلتهم قبلةً وتعالَوا على المسلمين، ونالوا منهم باعتبار دينهم هو الحق وقبلتهم هي الأولى، في الوقت الذي تجرد المسلمون لدينهم نزل الأمر بالاتجاه إلى المسجد الحرام؛ لتكون القلوب خالصة، وربط المولى المسلمين بعدها بحقيقة الإسلام وليس بعواطفهم وميولهم وجاهليتهم، ولكن بارتباطهم بتراث الأمة المسلمة، ولذلك ذكَّرهم بقداسة هذا البيت الحرام، وأشار إلى تاريخه التليد فقال: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ (آل عمران: 96-97)، ومن يومها ظهر المسلمون باختصاصهم وتميزهم في التصور والاعتقاد والوجهة وأصبح لهم شخصيتهم المتميزة في كل شيء تصورًا ووجهة؛ ومن أجل هذا التميز كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهى المسلمين عن التشبه بغير المسلمين “إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم”، “لا تطروني كما أَطرت النصارى المسيح ابن مريم إنما أنا عبد الله ورسوله” تميَّز في الاعتقاد، وتميز في السلوك يعرف به المسلم؛ حتى يكاد يشار إليه بالبنان بمجرد رؤيته ومظهره وسلوكه.

فأين نحن من هذا التميُّز الذي افتقدناه حتى انماعت شخصيتنا، ألا نكون للأسف كالشعب الفرنسي غير المسلم الذي رفض (الهامبورجر والبيتزا هات) وكل الأشكال الأمريكية حتى يحتفظ لهويته وانتمائه، فما بالنا نرى التشبه لا في العبادات والتقاليد فحسب بل في الأسماء الغربية والفنون والآداب!!، بل وظهر ذلك في مناهج تعليمنا وانتشر هذا المرض حتى رأيناه في اللافتات بأسماء أجنبية على واجهات المجلات، وأفلام السينما والمسرح؛ حتَّى أصبح بعض القوم يفخرون باللسان الأعجمى، والانتساب إلى المنهج الغربي، فمتى نفيء إلى حصننا، ونعود إلى خيريتنا؟