لا شك أن التمرد المسلح الذي تشهده شبه جزيرة سيناء هو نتيجة لعدة عوامل متداخلة،
أبرزها اعتماد المقاربة الأمنية كحل وحيد في التعامل مع الملف السيناوي منذ عقود، وحتى الآن؛ إضافة إلى البعد الأيديولوجي الذي دفع مجموعات من المسلحين إلى مربع استهداف القوات الأمنية في سيناء، عقب تولي« عبد الفتاح السيسي» مقاليد الحكم في مصر، وزادت الأزمة تفاقمًا بعد تحول أهم التنظيمات المسلحة في سيناء، وهو تنظيم أنصار بيت المقدس إلى الاسم المعروف بـ«ولاية سيناء»، بعد بيعته لتنظيم داعش في نوفمبر 2014؛ هذه البيعة التي لم تحمل أخبارًا سارة للقوات الأمنية، بما تتضمنه من تحولات فكرية ذات دلالات فقهية تميز هذا التنظيم، وتبيح له تكفير، واستباحة دماء الجنود، دون النظر لقاعدة العذر بالجهل، وتحول بوصلة السلاح إلى العدو القريب، بدلًا من العدو البعيد، مما أدى إلى توسع رقعة المواجهات مع الجيش والشرطة في سيناء.
البعد الثالث هو البعد التنموي، وهنا في سيناء يظهر جليًا صراع المركز مع الأطراف؛ فسيناء لم تتغير طبوغرافية كثبانها الرملية منذ حرب التحرير في 1973، اللهم إلا بفعل الرياح، فالنظم العسكرية المتعاقبة احتكرت التنمية في أيدي مندوبيها من أصحاب الياقات البيضاء، فظلت مشروعاتها واستثماراتها حكرًا على رجال أعمال بعينهم، أبرزهم «حسن راتب» في شمال سيناء، «وحسين سالم» في جنوبها.
ما حدث في سيناء تخطي مفهوم «اللامساواة»، وربما يكون مصطلح التهميش أكثر دلالة، فالتهميش هو إحساس جماعي بالظلم، يشكل وعيًا مشتركًا بفضل الطبقة المتعلمة التي تستطيع بلورة هذا الشعور وذاك الوعي في شكل أصوات مطالبة برفع الظلم أو المطالبة بالتنمية، لكن الأنظمة المتعاقبة، لم تعر اهتمامًا لهذه الأصوات التي تعبر عن شعور عام بالإحباط وعدم الرضا تجاه السلطة المركزية،
العوامل الثلاثة السابقة ساهمت في خلق العنف وهيأت الأجواء لخلق بيئته الحاضنة.
إلا أنني، وفي شهر مارس من كل عام، تطاردني ذكريات التاريخ الذي لعب دورًا مفصليًا، ربما في تشكيل وعي السياسيين المعارضين في سيناء، وبالتاكيد أثرت كذلك في التكوين الفكري لمعتنقي فكرة العمل المسلح علي أرض سيناء.
البعد التاريخي الذي أثبت التاريخ والتجربة أنه لم يكن وطنيًا بامتياز، والذي يعتبر شهر مارس أحد أهم شهوده.
في 26 مارس 1979 تم توقيع معاهدة السلام بين الجانبين المصري والإسرائيلي ؛ هذه الاتفاقية سببت غضبًا كبيرًا في الداخل المصري استقال على إثرها وزير خارجية مصر «محمد إبراهيم كامل» منتقدًا كل بنود الاتفاقية، والتي أطلق عليها مذبحة التنازلات، نتيجة لعدم الإشارة بصراحة إلى انسحاب إسرائيل من قطاع غزة والضفة الغربية، كما أنها لم تضمن حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.
ردود الفعل العربية لم تختلف كثيرًا؛ بسبب خروج مصر عن الإجماع العربي واعترافها، بإسرائيل كأمر واقع، فتم تعليق عضوية مصر في جامعة الدول العربية لمدة عشر سنوات، ونقل مقر الجامعة إلى تونس لتخسر مصر دورها العربي الريادي.
أما فيما يخص سيناء فجاءت بنود الملحق الأمني لتمنع مصر من فرض سيادتها على أرضها فحرمت ثلث مساحة سيناء من أي تواجد عسكري، وفرضت وجود مراقبين دوليين عسكريين على الأراضي المصرية، بينما رفضت إسرائيل تواجد مراقبين غير مدنيين على أرضها، لتترك سيناء حديقة خلفية لأجهزة مخابرات دولية.
ثم جاء 19 مارس1989حيث تحتفل مصر سنويًا بعيد تحرير طابا، بعد التحكيم الدولي، واستردادها بحكم محكمة العدل الدولية، بـ«لاهاي» فتم إسدال الستار بشكل رسمي على قضية مدينة أم الرشراش المصرية التي احتلتها إسرائيل في 10 مارس 1949، و التي تسميها إسرائيل مدينة «إيلات».
المهزلة الحقيقية في المعاناة التي يعانيها السائح المصري، حتى يصل إلى منتجع طابا عبر مروره على عشرات الكمائن، بينما يسمح للسائح الصهيوني بالدخول لمدة 14 يوم، بدون تأشيرة!
كل هذه الأحداث بجانب مشاركة مصر في حصار قطاع غزة وشيطنة المقاومة الفلسطينية لعبت دورًا كبيرًا في تشكيل وعي التمرد المسلح بجانب العوامل السابق ذكرها.
فنظام الجنرال السيسي اعتمد بشكل كبير على الجانب الإسرائيلي في تأمين الشرعية الدولية مقابل ظهوره كشرطي مخلص على الجبهة الجنوبية لإسرائيل، هذا الذي تجلى بشكل كبير في تصريح وزير الطاقة الصهيوني «يوفال تشاينتس» مؤخرًا أن إغراق الأنفاق جاء بناء على طلب إسرائيلي.
ولا يبدو أن الدولة المصرية في سياق حربها على الإرهاب تنوي الحفاظ على ظهيرها الشعبي في سيناء من خلال تصحيح مسار التنمية أو عدم الاعتماد على المقاربة الأمنية فقط فضلًا عن عدم الارتماء في أحضان إسرائيل.
ليبقى السؤال مطروحًا:
وماذا بعد؟ حتى لو انتصرت الدولة المصرية في حربها على الإرهاب، هل ستنتصر مصر لسيناء من مصر؟