إن الأصول العشرين التي كتبها الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله تعتبر من أجمع ما كتبه، لأنها احتوت على ما يجب على المسلم أن يعتقده ويأخذ به في سلوكه وتنظيم علاقاته بخالقه وبالآخرين من بني الإنسان، وقد آثرنا شرحها بإيجاز لتكون مفهومة بقدر أكبر مما هي عليه الآن، ويلاحظ على هذه الأصول أنها شدّدت على ما لا يجوز الخلاف فيه من أمور العقيدة، وكما جاءت في القران الكريم والسنة النبوية المطهرة، حتى يقف المسلم عندها، ولا يتجاوزها بالزيادة والنقصان، كما بين المرشد رحمه الله في هذه الأصول الأمور التي يجوز الخلاف فيها حتى لا يستغرب الأخ من وقوع مثل هذا الخلاف، وإن كان له أن يتحرى عن الأولى والأكثر صواباً.
إن المرشد رحمه الله كان موفقاً في كتاباته إلى الحق، ولا معصوم من الخطأ إلا رسول الله ﷺ ، ولذلك نوصي الإخوان دائماً بقراءة ما كتبه وإعادة قراءة ما قرءوه منها، فإن في تكراره ترسيخاً للمعاني التي أرادها المرشد رحمه الله تعالى في نفوسهم على أن يعلم الإخوان أن ما كان يريده المرشد رحمه الله ويؤكد عليه هو العمل بما يعلمه المسلم من معاني الإسلام، وبناء النفس في ضوء هذه المعاني، وهذا النهج الذي تستقيم به النفوس وهو ما كان يتبعه الصحابة الكرام رضي الله عنهم فكانوا يعملون بما يعلمون …
وفّق الله الإخوان إلى ما يحبه ويرضاه وأمدهم بعونه حتى يقوموا بخدمة دينه، رحم الله مرشدنا بنى نفوسناً كثيرة على الهدى والصلاح وحب التضحية والجهاد.
والله أكبر ولله الحمد
الأصل الأول
الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا، فهو دولة ووطن، أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة، أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون، أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة، أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة، أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة، وعبادة صحيحة، سواء بسواء.
الشرح: الإسلام دين الله الخالد يوصف بالعموم والشمول، أما العموم فيراد به أنه للبشر كافة، ودليل ذلك قول الله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)، وأما الشمول فيراد به أن يحكم شئون الحياة وما يصدر عن الإنسان وما يتعلق به، ودليل ذلك قوله تعالى (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) وقوله تعالى (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ)، وعلى أساس هذا الوصف الثابت للإسلام، قال المرشد رحمه الله ما قاله في هذا الأصل الأول ليوضح معناه بذكر بعض ما يشمله الإسلام، ويؤيد توضيح المرشد رحمه الله أننا نجد في القران الكريم آيات الحكم كما نجد آيات الصلاة، ونجد آيات الجهاد كما نجد آيات المعاملات والقضاء وهكذا .
وقول المرشد رحمه الله ( فهو وطن ودولة ): يعني أن فيه أحكاماً تنظم أمور الدولة وتعني بشئونها، فليس الإسلام قاصراً على علاقة الإنسان بربه، بل ينظم علاقة الإنسان بالإنسان، وعلاقة الإنسان بالجماعة، وعلاقة الجماعة بالجماعة، والجماعة هذه تأخذ تنظيماً سياسياً يُطلق عليه الدولة، ولهذه الدولة رئيس يسمى بالاصطلاح الفقهي الإمام أو الخليفة، وقد بين الإسلام أساس هذه الدولة وكيفية اختيار رئيسها وعلاقة الافراد بها وحقهم عليها وحقها عليهم، وكل هذه الأبحاث يعني بها في الوقت الحاضر فرع خاص من فروع القانون يسمى القانون الدستوري .
والكلمة الجامعة في هذا الباب أن الدولة في نظر الإسلام تقوم على أساس فكرة هي الإسلام، فهي دولة فكرية، وليست قومية، ولا جنسية، ولا إقليمية، وأن رئيسها اختياراً من قبل المسلمين وفق شروط معينة يجمعها الكفاءة والأمانة، وأن الغرض من اختياره تنفيذ الشرع وحمل الناس على إتباعه، ومركز الفرد في هذه الدولة بارز غير مغمور، فهو مسئول عن حسن سير الدولة وعن قيام رئيسها بواجبه، ومن ثم كان له حق المراقبة والنصح والإرشاد والنقد، كما إن الدولة مسؤولة عن الفرد وعن تأمين ما يحقق له حياة كريمة .
وأما قوله ( ووطن ) فيراد به رحمه الله أن الإسلام بين المقصود بالوطن للمسلم يشمل جميع ديار الإسلام، ودار الإسلام: كل إقليم يسكنه المسلمون وكانت السلطة فيه لهم ويطبقون أحكام الإسلام فيه، وحق دار الإسلام على المسلم الدفاع عنها ومنع العدو من الاستيلاء عليها .
وأما معنى ( وأمة ) فالأمة: هي جماعة من الناس تجمعهم روابط معينة تجعل منهم جماعة مميزة متآلفة ترغب في العيش معاً وباطمئنان، والإسلام يقيم هذه الأمة على أساس العقيدة الإسلامية، فهي أقوى الروابط وأبقاها، ولا يهم اختلاف أفراد الأمة بالجنس واللسان أو الإقليم ما داموا مشتركين في العقيدة الإسلامية فهي وحدها تكفي لتكوين الأمة الواحدة ، وغيرها لا يكفي لإقامة هذه الأمة .
وفي القران الكريم (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ … ) ، (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ).
وقال المرشد رحمه الله: ( وهو خلق وقوة ..) إن الإسلام يُعنى بالأخلاق وبالقوة، أما عنايته بالأخلاق فظاهرة، فالقران الكريم ذكر كثيراً من الأخلاق الجميلة التي يتصف بها المؤمنون، ذكرها على سبيل الثناء والاستحباب ودعا إلى التخلق بها، ومدح رسوله الكريم ﷺ بها (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، وفي الحديث الشريف (إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، وعن عائشة الصديقة – رضي الله عنها – وهي تصف أخلاق رسول الله ﷺ ( كان خلقُهُ القرآن), ولهذا كان للأخلاق مكان بارز في دعوة الإخوان وما زال الإخوان يحملون نفوسهم على الأخلاق الكريمة التي دعا إليها الإسلام، وعلى هذا يخطئ من يظن أن الدعوة إلى الأخلاق لا تتفق وسير الإخوان باعتبارهم جماعة تعنى بالأمور العامة، يخطئ من يقول هذا القول لأن الأخلاق جزء من دعوة الإسلام ولا يسع الإخوان أن يهملوا ما جاء به الإسلام، كما أن صلاح الأعمال بصلاح المعاني المغروسة في النفوس والأخلاق الكريمة من هذه المعاني التي تثمر الأعمال الصالحة، ومن العبث بصلاح ظاهر الإنسان وتطالبه بصالح الأعمال ونترك باطنه نهياً لكل خلق ذميم .
فالأخلاق إذن تستحق العناية والاهتمام وتربية النفوس عليها، ولا يجوز قصر الأخلاق على ما تعارف عليه الناس من كلام لين وبشاشة في الوجه وتواضع، بل إن دائرة الأخلاق واسعة جداً، عبّرت الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها حيث قالت تصف أخلاق النبي ﷺ: ( كان خلقُهُ القرآن)، فكل ما دعا إليه القرآن من صفات جميلة وأخلاق كريمة تدخل في مفهوم الأخلاق، فالصبر والاستقامة والثبات والعزة والصدق والوفاء وعلو الهمة والإخلاص وغيرها من الأخلاق الكريمة كلها مطلوبة … وذات أثر حاسم في سلوك الإنسان، وأضداد هذه الأخلاق كالجزع والهلع والتردد والنفاق والذلة والمهانة والكذب والغدر والرياء ونحو هذه الرذائل كلها مطلوب تركها وتخلية النفس منها، وبهذه التخلية من هذه الرذائل وبتلك التحلية بتلك الفضائل تكون للمسلم شخصية قوية متماسكة تؤثر الخير وتؤثر في الحياة وتصمد أمام الفساد .
وأما ( القوة ) في قول المرشد رحمه الله فيريد بها أن الإسلام دعا إلى القوة؛ فلا يجوز للمسلم أن يضعف أو يستكين، والحق أن الإسلام ركز على هذه المسألة ودعا بصراحة إلى الأخذ بأسبابها، قال تعالى ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ), وبلاغة القرآن الكريم جاءت بهذا التعبير البديع الشامل جميع أنواع القوة ما كان منها في زمن التنزيل، وما سيكون منها بعده، وهذا الطلب (وَأَعِدُّوا) للوجوب فالأمة الإسلامية مطلوب منها أن تهيئ ما تستطيع من أسباب القوة حسب الزمان والمكان، ولا تقتصر القوة على السلاح بل تتعداها إلى كل شيء يصير به المسلم قوياً ويصير به المسلمون أقوياء كالعلم والثروة والإنتاج، وحيث أن تحصيل هذه القوة بأنواعها في الوقت الحاضر يحتاج إلى جهد ودراية وإعداد وسائل مختلفة وتعلم صناعات متنوعة وفنون مختلفة كالعلوم والكيمياء والفيزياء وتشييد المصانع وإجراء التجارب وتعلم ما عند غير المسلمين من معرفة بهذه الأمور المالية .. نقول: ما دام تحصيل القوة متوقفاً على تعلم هذه الأمور فإن هذه الأمور واجبة وجوباً كفائياً على المسلمين، أي يجب أن يكون في المسلمين العدد الكافي للقيام بهذه الأسباب لإيجاد القوة اللازمة تطبيقاً للقاعدة الفقهية (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب).
كما ان القوة تشمل قوة الإنسان في نفسه وبدنه وعقله وعليه أن يباشر الأسباب التي تجعله قوياً، أما قوة نفسه فبالإيمان، وأما قوة بدنة فابلرياضة والفروسية ونحوها، وأما قوة عقله فبالعلم، ولهذا أوصى المرشد رحمه الله وصايا تحقق للأخ القوة في نفسه وعقله وبدنه، وليعلم الأخ أن الحق لا بُد له من قوة تحميه هذه سنه الله في الحياة ولهذا لم يغفل الإسلام جانب القوة، بل دعا إليها حماية للحق الذي جاء به وإذا كان تحصيل القوة أمراً لازماً فهو اليوم أكثر لزوماً من أي يوم مضى لأن المسلمين إلا بالقوة، ونحن (جماعة الإخوان المسلمين) الدعاة إلى الله والطليعة المؤمنة التي تريد إيقاظ المسلمين نحتاج إلى قوة نستطيع بها تحقيق ما نٌريد، وقوتنا هذه يجب أن تكون قوة العدد، وقوة الإيمان، وقوة العلم والتنظيم، وما لم تكن قوتنا أكبر من أية قوة جماعة مبطلة فلن نستطيع الوصول إلى أهدافنا، فلنحمل أنفسنا على تحصيل هذه القوة والله ناصرنا إذا أخذنا بالأسباب .
وقول المرشد رحمه الله ( أو رحمه وعدالة ) الرحمة رأفة في القلب تحمل الإنسان على إعانة الضعيف المحتاج، أو العفو عن المقصر، أو التجاوز عن السيئ أو التألم على ما يصيب الغير من المصائب، وهي خلق جميل جداً إذا ما وضع في موضعه، والضوابط في هذا الباب أن الرحمة تقف حيث يجب إقامة حدود الله فلا يجوز أن تتدخل الرحمة في تعطيل حدٍ من حدود الله، قال الله تعالى في عقوبة الزناة (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ)، وهكذا سائر الحدود الأخرى.
والرحمة لا مجال لها مع أعداء الله الصادّين عن سبيله، وإن كانوا أولي قربى ولهذا كان الصحابة الكرام رضي الله عنهم يقاتلون الآباء والأعمام وأبناء الأعمام وسائر الأقارب في بدرٍ وأحد والخندق لأنهم كانوا أعداء الله يصدون عن سبيل الله .
أما في الإساءات الشخصية فيستحب فيها العفو، والعفو من الرحمة إذا كان الإنسان قادراً على أخذ حقه ممن أساء إليه، وكذلك تجري الرحمة بالنسبة للضعفاء والمساكين والصغار والمنقطعين والمرضى والشيوخ والفقراء وسائر المحتاجين إلى عون ومساعدة.
والإخوان وهم يكوّنون المجتمع الإسلامي الصغير ويحاولون صياغته على نحو إسلامي يجب أن تتحقق فيما بينهم الكثير من معاني الرحمة فيتراحمون فيما بينهم سراً وعلناً، والسر أحب إلينا من العلن .
أما ( العدل ) في قول المرشد فيراد به إعطاء كل ذي حق حقه وعدم هضمه شيئاَ، لأن العدل واجب مع كل إنسان مسلماً كان أو كافراً، عدواً كان أو صديقاً، قريباً كان أو بعيداً، قال الله تعالى ( وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)، والعدل يكون بالحكم والقضاء ويكون بالمدح والثناء وبالذم والنقد والعتاب وفي حالة الرضا والغضب، فليس من العدل أن تجور وأنت تحكم بين أثنين، وليس من العدل أن تسرف في مدح من لا يستحق نصف ما تقول من مدح، وليس من العدل أن تكثر الذم فيمن لا يستحق عشر هذا الذم، وليس من العدل أن تمدح في حالة الرضا وتذم في حالة الغضب، وليس من العدل أن تجور مع البعيد أو العدو المسيء وتغض الطرف عن القريب والصديق والمحسن إلينا .
وقوله رحمه الله: ( وهو ثقافة )، أي إن من تعاليم الإسلام الأخذ بقسط وافٍ من المعرفة النافعة لنا، فلا مانع يمنع المسلم من تحصيل المعرفة في أمور الكون والصناعات ومختلف العلوم المادية التي تدخل في مفهوم الثقافة وتهيئ للإنسان سبيل عمارة الأرض وحسن استغلال ثرواتها وفك مغاليق الكون، ولكن على المسلم وهو يحيط علماً بهذه الأمور أن يتذكر ربه جل وعلاء الذي وهب له العقل الذي يدرك وبنى الكون على هذه الهيأة المسخرة للإنسان وأن ينوي بمعرفته الخير ومرضاة الله تعالى .
وقوله رحمه الله: ( وقانون ) أي أن الإسلام جاء بأحكام لتنظيم علاقات الأفراد فيما بينهم، ونصّ على عقوبات وجزاءات للمخالفين سواء كانت هذه العقوبات والأجزية مدنية تصيب الإنسان في ماله أو عقابية تصيب الإنسان في بدنه أو حريته أو ماله، والقانون الإسلامي يشمل مختلف شؤون العلاقات بين الناس، وبالتالي لا يجوز للمسلم أن يهجر هذا القانون الإسلامي ويستعيض عنه بقانون آخر .
إن المسلمين اليوم قد هجروا القانون الإسلامي وطبقوا القوانين الأجنبية ولم يبق لقانون الإسلام إلا دائرة ضيقة جداً هي علاقات الأسرة فقط، وهذه الدائرة الضيقة أخذت تمتد إليها أيدي العابثين بالتحوير والتغيير .
وقوله رحمه الله: ( وعلم وقضاء …) أما العلم: فمعرفة وإدراك الحقائق والأشياء كما هي، ومعرفة ما أنزل الله تعالى والغاية التي خلق الإنسان لها ومصيره الذي أنزله محمد ﷺ فيعرف المسلم ربه ورسوله ودينه ومعاني هذا الدين، وتلي هذه المرتبة معرفة الأمور الأخرى التي تتعلق بأمور الحياة المختلفة .
إن الإسلام رفع شأن العلم والعلماء وأثنى على العلماء غاية الثناء ولم يُساوهم بغيرهم وبهذا نطق القرآن الكريم: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ )، (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)، وشان العالم أن يبتغي بعلمه وجه الله جل جلاله وأن يزكي نفسه بما علم وأن يعلم يقيناَ أن ما علمه أقل مما جهله ( وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا )، وأن يطلب المزيد من العلم (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ).
وأما ( القضاء ) فإن من مناهج الإسلام القضاء بين الناس، فالناس بحاجة إلى حاكم يقضي في خصوماتهم ورد الحق إلى صاحبه، وجوامع الضوابط في مسألة القضاء أن الإسلام يجعل القضاء فريضة، ولهذا عين النبي ﷺ القضاة في الأماكن البعيدة عن المدينة، والقاضي المسلم يشترط فيه المعرفة بأحكام الإسلام، ولهذا كان من شروط القضاء في الأماكن البعيدة عن المدينة، والقاضي المسلم يشترط فيه المعرفة بأحكام الإسلام، ولهذا كان من شروط القضاء أن يكون القاضي مجتهداً كما يشترط فيه أن يكون مسلماً لأن الحكم ولاية وسلطان، والكافر ليس له ولاية على المسلم، قال جل جلاله: (الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا)، والقاضي المسلم يحكم بالقانون الإسلامي ويحرم عليه أن يحكم بغيره وإذا حكم بالإحكام الإسلامية عليه أن يتحرى العدل ويبذل الجهد فإذا أصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر واحد .
قوله رحمه الله ( وهو مادة أو كسب وغنى ) أي أن الإسلام لا يهمل أمور المادة، فهو يعنى بالروح ويعنى بالمادة، ولكن المسلم يحفظ قلبه خالصاً لله فلا تأسره المادة مهما كثرت، وللمسلم أن يباشر أنواع المكاسب بشرط أن تكون مباحة غير محرمة، وله وحده ثمرة كسبه وأتعابه لأن الملكية الخاصة محترمة في الإسلام فلا يجوز الاعتداء عليها أو مصادرتها، وعليه أن يُخرج ما افترضه الله عليه في أمواله مثل حق الزكاة وحق النفقات الشرعية .
وعلى هذا فليس محرماً على المسلم أن يكون غنياً، بل أن الأصل في الغنى أن يكون قرينة على سعي الإنسان وجده واجتهاده، وإذا ما أتقى ربه في غناه وأدى ما أوجبه الله عليه فإنه يكون من أولياء المتقين، وقد أثار الفقهاء مسألة أيهما أفضل الفقير الصابر أو الغني الشاكر؟ فذهب بعضهم إلى أفضلية الأول وذهب آخرون إلى أفضلية الثاني، والصواب أن أفضلها أتقاهما إلى الله تعالى، أن على الأخ أن لا يزهد في الكسب بحجة الزهد والانقطاع إلى العبادة فإن الزهد محله القلب لا اليد، والعبادة لا تناقض الكسب بل إن الاكتساب الحلال باليد الصالحة نوع من أنواع العبادة، وفي الحديث (اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى)، وإنما تكون يد الإنسان هي العليا إذا كان غنياً والغنى يكون بالكسب، وهذا وإن من حق المسلم على الدولة أن تعينه على الكسب بأن تهيئ له سبل العمل أو تعينه عليه .
قوله: ( وهو جهاد ودعوة… ) الإسلام يأمر بالجهاد .. وحقيقته: بذل الجهد في سبيل الله حتى يصل هذا الجهد المبذول إلى إراقة لدم المسلم في سوح القتال، ومن الجهاد: الجهاد بالمال والقلم واللسان، والمسلم يقوم بالجهاد بصفته فرداً ويقوم به بصفته عضواً في الجماعة، كما لو كان أخاً في (جماعة الإخوان المسلمين) وفي هذه الحالة عليه أن ينسق جهاده مع سير الجماعة حتى يتحقق الغرض المقصود من الجهاد الجماعي الذي يقوم به الإخوان .
إن المسلمين اليوم قد عزفوا عن الجهاد وزهدوا مع أنه أصبح اليوم فرض عين على كل مسلم لأن بعض بلاد الإسلام أغتصبها الكفرة، ولأن المسلمين عموماً في حالة من الضعف والهوان تستلزم الجهاد العاجل في سبيل الله لتخليص المسلمين مما هم فيه من ضعف وهوان وانحراف عن خط الإسلام، إن قيام حكومة إسلامية حقاً يعتبر من أهم الوسائل التي تحقق ما يريده الإسلام، وإن إقامة مثل هذه الحكومة هو بعض ما يهدف إليه الإخوان، ومن أجل هذا ونحوه من الأهداف الإسلامية يبذلون جهدهم اليوم، ومع لزوم الجهاد في سبيل الله لزوم القيادة بالدعوة إلى الإسلام بالوسائل المشروعة كافة كالكتابة والمحاضرة والمناقشة والقيام بالأسفار ونحو ذلك، وأعظم وسائل الدعوة إلى الإسلام: صياغة المسلم نفسه صياغة إسلامية تسهل عليه دعوة الناس إلى الإسلام إذ يرون فيه مثلاً حياً للمعاني الإسلامية .
إن المجتمع الإسلامي افتقد منذ زمن بعيد هذه النماذج البشرية الإسلامية؛ ولهذا كان من أصول دعوة الإخوان التأكيد على التربية وتكوين الفرد المسلم لتهيئة هذه النماذج الإسلامية الحية وقذفها في المجتمع ولفت النظر إليها وجعل الناس يرون بصورة عملية كيف يصوغ الإسلام الإنسان ويجعله كالنور يسري بين الناس، والدعوة إلى الإسلام واجب على كل مسلم: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، كما إن من واجبات الإسلام قيام جماعة مسلمة تدعو إلى الله جل جلاله ليعظم أثرهم في الحياة (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) وعلى هذا الأساس قامت (جماعة الإخوان المسلمين) استجابة لأمر الله تعالى وللدعوة إليه .
وقوله رحمه الله: ( أو جيش وفكرة …) الجيش: مظهر من مظاهر الاستعداد للجهاد، وهو من أقوى وسائله، ومن البديهي أن إعداد الجيش يحتاج إلى إعداد الجنود والعتاد والسلاح .. فلا بُد من تربية أفراد الأمة على الجندية ونظامها وطاعتها وتعويدها على تحمل الصعاب وشظف العيش وضبط النفس بالإضافة إلى إعداد السلاح بأنواعه، واما الفكرة فالمراد بها: إعداد الجيش حيث يكون قائماً على أساس فكرة معينة هي الإسلام، أي أن الجيش الإسلامي يقوم تنفيذاً لأمر الإسلام وحسب مناهجه وحماية له والدعوة إليه .
إن الحق لا بد له من قوة تحميه وتدفع عنه الأذى وتزيل العقبات من طريقه العقبات، والجيوش الإسلامية منذ زمن الرسول ﷺ كانت تحمي الدعوة الإسلامية وتزيل العقبات من طريقها مما مكن الناس رؤية الإسلام وأداراك محاسنه ومعرفة حقائقه فدخلوا فيه أفواجاً، فالسيف لا يُدخل الإسلام في القلوب وإنما يزيل العوائق عنها فتتسع له وينساب نوره إليها، ولو كان انتشار الإسلام بالسيف لرأينا انحساره عن البلاد التي فقدت قوة المسلمين .
إن الفكرة الإسلامية تحتاج إلى إيضاح جديد وإبراز كافٍ وانصباغ المسلمين بها وهذا ما يسعى إليه الإخوان حسب طاقاتهم وقدرتهم، والعالم اليوم تتصارعه أفكار مختلفة وراء كل فكرة دولة تُدين بهذا الفكرة وتستخدم قوتها وطاقتها للتبشير بها والدفاع عنها، أما الإسلام فلا توجد له دوله تقوم على مبادئه وتُسخر كل طاقاتها للدفاع عنه والتبشير به .
ومن هنا عظمت مَهمة الإخوان، فهم عليهم الآن العبء الكبير لحماية الدعوة الإسلامية والتبشير بها إلى أن تقوم في بلاد المسلمين الحكومة الإسلامية الحقة التي تقوم بهذا العبء، وتحشد جميع طاقات المسلمين وموارد الدولة لإعادة الحياة الإسلامية الأولى، وإقامة المجتمع الإسلامي الصحيح في الأرض ودفع العوائق عن زحف الدعوة الإسلامية .
وقوله رحمه الله: ( كما هو عقيدة صادقة …), العقيدة: ما ينعقد عليه القلب ويطمئن له وقد يكون هذا حقاً كما قد يكون باطلاً، فإن كام حقاً فالعقيدة هي الصادقة وهي العقيدة الحقّة، وإن كان غير ذلك فالعقيدة باطلة فاسدة كاذبة، وليس في العالم عقيدة حقة غير عقيدة الإسلام، وما خالفها فهو باطل وضلال .
وتقوم العقيدة الإسلامية على أساس الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله تعالى، أما الإيمان بالله فيقوم على أصلين:
الأصل الاول: الأيمان بربوبيته, أي الإيمان بأنه الخالق المحيي المميت المالك القدير إلى آخر صفاته الحسنى .
الأصل الثاني: الإيمان بألوهيته. أي إنه وحده المعبود الحق الذي يستحق العبادة ، وهذا هو معنى (لا إله إلا الله) فلا يجوز صرف شيء من العبادة لغير الله تعالى .
والإيمان بالملائكة: تعني الاعتقاد الجازم بوجود هذه المخلوقات التي لا يعلم عددها إلا الله تعالى، وإن منهم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل.
والإيمان بكتبه: أي الإيمان بأن الله جل جلاله أنزل كتباً على رسله هي كلامه، ومنها التوراة والإنجيل والزبور وإن آخر الكتب المنزلة هو القرآن الكريم الذي نؤمن به بأنه كلام الله جل جلاله، وأن ليس لرسوله محمد ﷺ منه إلا التبليغ، فلفظ القرآن ومعناه من الله جل جلاله وهو محفوظ من الزيادة أو النقصان ومن اعتقد حصول الزيادة أو النقصان منه فقد خرج من دائرة الإسلام .
والإيمان برسله: أي نؤمن بجميع رسل الله جل جلاله وهم كثيرون، ذكر القرآن بعضهم ولم يذكر بعضهم الآخر، ونؤمن بأن خاتمهم هو رسولنا محمد ﷺ وأن لا نبي بعده، وأن إتباعه هو الواجب ولا يسع الإنسان أن يخرج عن متابعته أو يعتقد أنه ليس برسول، ومن اعتقد ذلك فقد كفر .
والإيمان باليوم الآخر: يعني التصديق بأن وراء هذه الحياة حياة أخرى يحيي الله فيها الناس ويحاسبهم على أعمالهم، ونتيجة الحساب يصير فريق في الجنة وفريق في النار، وهذا الحشر والحساب والجزاء يكون للإنسان بروحه وجسده والنعيم في الآخرة بالروح والجسد، وكذلك العذاب بالروح والجسد، ونعتقد بأن شفاعة الرسول ﷺ في الآخرة حق، وهي تكون بإذن الله جل جلاله ولمن يريده أن تصيبه هذه الشفاعة، ونعتقد أن عذاب القبر ونعيمه حق .
أما الإيمان بالقدر خيره وشره: فمعناه أن كل ما يحدث في العالم هو بخلق الله جل جلاله وعلمه ومشيئته ، وأن العبد مسؤول عن عمله ولا يجوز له الاحتجاج بالقدر فلله الحجة البالغة على خلقه.
وقوله رحمه الله: ( وعبادة صحيحة سواء بسواء ) أي أن الإسلام يتضمن أنواع العبادات، فمنها عبادة القلب مثل حب الله جل وعلاء وخشيته والثقة به والتوكل عليه، ومنها عبادات الجوارح مثل ذكر الله تعالى والقيام بما أفترضه من صلاة وصيام وحج، وهذه العبادات بأنواعها تقوم على أصلين كبيرين لا تكون صحيحة ولا مقبولة بدونهما :
الأصل الأول: أن تكون وفق ما شرعه الله تعالى .
الأصل الثاني: أن تكون خالصة لله جل جلاله وحده .
وعلى هذا الأساس كان الابتداع في الدين مُحرماً، ومن يعبد الله بالبدع فلن يصيبه غير الخسران، وكذلك من يقوم بالعبادة على الوجه المشروع حسب الظاهر ولكنه لا يريد بها وجه الله جل وعلاء وأن يريد بها شيئاً آخر فإنه لن يصيبه منه غير الخسران، نسأل الله تعالى أن يوفقنا لصالح العبادات ويجعلها خالصة لوجهه الكريم .
هذا …. وليعلم الأخ أن الأعمال كلها حتى المباحة منها إذا نوى فيها المسلم وجه الله جل جلاله والاستعانة بها على مرضاته فإن هذه الأعمال تنقلب بحقه عبادة يُتاب عليها .