أخي الحبيب: إنّ غايتَنا محددةٌ واضحةٌ، لا لبس فيها ولا غموض ولا التواء، كالغرة البيضاء؛ أوضحُ من فلق الصبح، وأسطعُ من الشمس في رابعة النهار، اللهُ جَل جلالُهُ هو وحده غايتُنا دون العالمين، وهو هدفنُا، ومقصدُنا، ووجهتُنا، وبغيتُنا، ومنتهي آمالِنا، نسعي لطاعته، ونفرُ من سخطه، ونتقربُ إليه بما يحب، ونجاهدُ لإقامةِ دينه، والتمكينِ لشريعته، وندعو الخلق إليه، ونعرفهم علي طريقه، وندلهم علي بابه، ونأخذ بأيديهم إلي رحابه، ونجمعهم في ساحته، فإذا وجدناه وجدنا كل شيء، وإن فاتنا فقدنا كل شيء، وهل وراء الله من شيء؟! “وهل وراء ذلك من غاية؟ هل في الوجود عاقل لا يرضي أن تكون غايته في دنياه رضاء الله؟ هل من ضعيف يري في غير الله قوة؟ هل من محتاج يري في غير الله كفاية؟ هل من حائر يجد عند غير الله هدي؟ هل من مكدود يري عند غير الله عوناً؟ وهل من محزون يلتمس من عند غير الله عزاءً وسلوى؟ وهل من مقهور يبحث عند غير الله عن نصرة؟ هل وهل؟ فكيف لا يكون الله غايتنا؟”(عمر التلمساني، الملهم الموهوب).
اللهَ قٌلْ وذَرِ الوجودَ وما حَوَي هل في الوجودِ حقيقةٌ إلاهُ
أخي الحبيب: دعوتنا ربانية لا تبحث إلا عن رضي الرب سبحانه. فحيث كان رضاه كنا، وحيث وجد وجدنا، يقول مرشدنا المؤسس رحمه الله: “أخص خصائص دعوتنا أنها ربانية عالمية: أما أنها ربانية فلأن الأساس الذي تدور عليه أهدافنا جميعاً، أن يتعرف الناس إلى ربهم، وأن يستمدوا من فيض هذه الصلة روحانية كريمة تسموا بأنفسهم عن جمود المادة الصماء وجحودها إلى طهر الإنسانية الفاضلة وجمالها. نحن الإخوان المسلمين نهتف من كل قلوبنا: الله غايتنا فأول أهداف هذه الدعوة أن يتذكر الناس من جديد هذه الصلة التي تربطهم بالله تبارك وتعالى والتي نسوها فأنساهم الله أنفسهم ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة:21). وهذا في الحقيقة هو المفتاح الأول لمغاليق المشكلات الإنسانية التي أوصدها الجمود والمادية في وجوه البشر جميعاً فلم يستطيعوا إلى حلها سبيلاً، وبغير هذا المفتاح فلا إصلاح”(حسن البنا، مجموعة الرسائل). ويقول: “أيها الإخوان.. إننا ندعوكم إلى أن تجتمع قلوبُنا على هذه الغاية السليمة الصافية، على أن نفرَّ إلى الله إخوانًا صادقين على هذه المبادئ، ولنجاهدْ من أجلها، ونُعلِ رايتَها، وهذا حلمٌ له تعبيرٌ، وكلكم يوسف هذه الأحلام”(حسن البنا، حديث الثلاثاء).
أخي الحبيب: إن هذه الغاية السامية هي عنوان دعوتنا، وشعار جماعتنا، وخصيصة حركتنا. يقول مرشدنا المؤسس رحمه الله: “سنجاهد في سبيل تحقيق فكرتنا، وسنكافح لها ما حيينا، وسندعو الناس جميعاً إليها، وسنبذل كل شيء في سبيلها، فنحيا بها كراماً أو نموت كراماً، وسيكون شعارنا الدائم: الله غايتنا، والرسول زعيمنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا”(حسن البنا، مجموعة الرسائل). ويقول أيضاً: “أيها الأخ الصادق: هذه المبادئ مجمل لدعوتك, وبيان موجز لفكرتك, وتستطيع أن تجمع هذه المبادئ في خمس كلمات: الله غايتنا, والرسول قدوتنا, والقرآن شرعتنا, والجهاد سبيلنا, والشهادة أمنيتنا. وأن تجمع مظاهرها في خمس كلمات أخرى: البساطة, والتلاوة, والصلاة, والجندية, والخلق. فخذ نفسك بشدة بهذه التعاليم, وإلا ففي صفوف القاعدين متسع للكسالى والعابثين. وأعتقد أنك إن عملت بها وجعلتها أمل حياتك وغاية غايتك, كان جزاؤك العزة في الدنيا والخير والرضوان في الآخرة, وأنت منا ونحن منك, وإن انصرفت عنها وقعدت عن العمل لها فلا صلة بيننا وبينك, وإن تصدرت فينا المجالس وحملت أفخم الألقاب وظهرت بيننا بأكبر المظاهر, وسيحاسبك الله على قعودك أشد الحساب, فاختر لنفسك ونسأل الله لنا ولك الهداية و التوفيق”(حسن البنا، مجموعة الرسائل).
أخي الحبيب: غايتنا لا تقبل الشركة، ولا تقبل أن تختلط بغيرها من الغايات، فلابد من الإخلاص التام، والتجرد الكامل، قال تعالي: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ (الكهف: 110). عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ, مَالَهُ؟, فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : «لَا شَيْءَ لَهُ» فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ , يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا شَيْءَ لَهُ» ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ اللهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا لَهُ , وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ»(رواه النسائي وصححه الألباني) ولذلك فقد جعل الإمام البنا رحمه الله الإخلاص ركناً من أركان البيعة وقال في تعريفه: وأريد بالإخلاص: أن يقصد الأخ المسلم بقوله وعمله وجهاده كله وجه الله , وابتغاء مرضاته وحسن مثوبته من غير نظر إلى مغنم أو مظهر أو جاه أو لقب أو تقدم أو تأخر , وبذلك يكون جندي فكرة وعقيدة , لا جندي غرض و منفعة , ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(الأنعام:162) وبذلك يفهم الأخ المسلم معنى هتافه الدائم: الله غايتنا، والله أكبر ولله الحمد” (مجموعة الرسائل).
أخي الحبيب: غايتنا لابد أن تهيمن علي كل حركتنا، ولابد أن تظهر في كل تصرفاتنا، وأن تصطبغ بها كل جوانب حياتنا، يقول مرشدنا المؤسس رحمه الله: “أيها الإخوان: لقد أعلنتم من أول يوم أن دعوتكم إسلامية صميمة، على الإسلام تعتمد ومنه تستمد، وهتفتم بها من كل قلوبكم: الله غايتنا، والرسول قدوتنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا.. ولكنكم مع هذا فهمتم الإسلام فهما شاملا: فآمنتم به نظاماً اجتماعياً كاملاً يصحح للناس أوضاع مجتمعهم في كل شيء، فلا يدع صغيرة ولا كبيرة من شؤون الحياة إلا تناولها، وأوضح ما فيها من خير ليقبل الناس عليه، وما فيها من شر ليجتنبوه.ـ وآمنتم كذلك بأن من واجب المسلم الحق أن يجاهد في سبيل هذا الإسلام حتى يهيمن على المجتمع كله، ويحتل مكانه الذي هيأه الله له في دنيا البشر. وآمنتم كذلك بأن ذلك أمر ممكن ميسور لو أراده المسلمون واجتمعوا عليه. وقد تكون هذه الأمور الثلاثة محلّ خلاف بينكم وبين فريق من المسلمين أنفسهم، فلا زال كثيرون لا يرون الإسلام إلا في صور من العقائد الصحيحة أو الفاسدة, والعبادات الكاملة أو الناقصة. ولا يزال الكثيرون يرون أن الجهاد في سبيل هذا الإسلام أمر قد انقضى وقته ومضى زمنه. ولا يزال الكثيرون يرون أن العقبات أمام المجاهدين في سبيل هذه الغاية أكبر من أن يزيلها شيء، ولهذا القصور في الفهم، والصغر في الهمم، واليأس في النفوس استسلم كثير من الناس للأمر الواقع، وظنوا أن ذلك يرفع عنهم اللوم في الدنيا والعذاب في الآخرة، ونسوا قول الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً﴾(النساء:97)، فقمتم أنتم أيها الإخوان المسلمون تنفضون عنكم وعن الناس أوضار القصور والضعف واليأس، وتنتظرون موعود الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ, الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾(الحج:40 – 41)” (مجموعة الرسائل). ويقول: ” أيها الإخوان: مهمتنا سيادة الدنيا وإرشاد الإنسانية كلها الى نظم الإسلام الصالحة وتعاليمه التى لا يمكن بغيرها أن يسعد الناس”(حسن البنا، مجموعة الرسائل).
أخي الحبيب: علي هذه الغاية نلتقي، وحولها نتجمع، وفي سبيلها نجاهد، لا نرتبط بأشخاص، ولا نهتف لزعامات، ولا نعمل لمجد شخص أو قبيلة أو جماعة، ولا نخدم إلا هذا الدين العظيم الذي شرفنا الله به، ورفع قدرنا بالانتساب إليه، وتأمل هذه اللطيفة في قول الله تعالي: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾ (الأنعام: من الآية 90) يقول مرشدنا الرباني: الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله: “ذلك لأن الله سبحانه أمر سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهدى الأنبياء والمرسلين الذين سبقوه عليهم جميعا الصلاة والسلام، ولم يأمره أن يقتدي بهم لذواتهم وشخصياتهم، ولذلك قال جل وعلا: ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ ولم يقل فبهم اقتده، وهكذا فهم الإخوان المسلمون أن الله وحده هو المعبود والمقصود والمطلوب والمرغوب والأمل والغاية والمنتهى. فهموا أننا جميعا قاصدون، وهو وحده المقصود، ولا شيء غيره؛ لأنه أوجد كل شيء في هذا الوجود،؛ لهذا حرصوا على أن يكون علمهم بالله فوق كل علم يتعلمونه، لأن الله هو الأجل والأعلى، فالعلم به وله يعلو فوق كل علم ومعلوم؛ فاتخذوا الدنيا معبراً يعبرونه إلى الآخرة؛ وكان أول شعارهم «الله غايتنا» فتعلمت منهم سائلا ربي أن ينفعني بما علمت”(بعض ما علمني الإخوان، بتصرف).
أخي الحبيب: حول غايتنا وتوضيح معناها، وتجلية جوانبها، وبيان ثمرات التمسك بها في حياتنا يقول مرشدنا المؤسس رحمه الله: “نريد أيها الإخوان أن نمحِّص الغاية تمحيصًا سليمًا حقيقيًّا. فإذا محَّصناها كذلك اجتمعت عليها قلوبنا، فإذا اجتمعت عليها قلوبنا، أوجد الله منا مَن يقودنا. وهذا المعنى قد خاطبني فيه أحدُ الإخوان فعلَق بقلبي، فأخذتُ أفكِّر، فوجدتُ القرآن الكريم قد أشار إلى هذه الغاية في سورة واحدة لعلها أقصر سورة وإن كانت من أجمعها لمعانيه ومراميه، تلك السورة هي ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ (الإخلاص: 1 – 4). فمعناها أيها الإخوان مُنصبٌّ ومتجهٌ إلى الغاية كل الاتجاه، ووالله لو فقه المسلمون السورة، وفهموا مراميَها، وجعلوها نُصبَ أعينهم، ووعتْها قلوبُهم وجوارحهم لكان هذا وحده كافيًا لتحقيقِ وحدتهم وتحقيق نصرتهم. ولقد جاء قومٌ من يهود فسألوا النبي-صلى الله عليه وسلم: يا محمد، انسب لنا ربك، إنك تدعونا إلى الله، وإن الغاية التي تحدثنا عنها أن نتصل بالله. فأنزل الله تعالي هذه السورة التي حددت الغاية كما حدَّدها كثيرٌ من آيات القرآن الكريم﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾( النحل: 125) ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ﴾(فصلت: 33)﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: 104) ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾ (الأحزاب: 5 -46) ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾ (الشورى: من الآية 15). أليست الدعوة مبدؤها ومنتهاها ولُحمتها وسداها أن يتصل الناس بالله صلةً حقيقيةً، وأن يتعرفوا إليه تعرفًا حقيقيًّا، حتى يحرزوا معونتَه في الدنيا وحسن الثواب في الآخرة، وهي الغاية التي قامت عليها السماءُ والأرض وبُعث لها النبيون، ويقوم بها الصالحون؟ وحين يتحقق الإنسان من هذه المعاني أيها الإخوان الفضلاء، وحين تثبت في نفسه وتركز في فؤاده، وحين تصبح خلقًا لازمًا وصفةً لاصقةً بقلبه، مشرقةً على روحه، لا تخشى إلا الله، ولا ترهب إلا الله، ولا تطلب إلا من الله، ولا تغيب عن الله طرفةَ عين، حينئذ يكون سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولا يغيب الله عنه، ويرتقي إلى الإحسان «اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك». أيها الإخوة: إن العبد إذا تحقق من هذا المعنى، الغاية التي يجب أن تجتمع عليها قلوب مَن حمل لواء الله، وأن يتجردوا لله مِن ميولهم وشهواتهم، وأن يُثبتوا هذه المعرفة في نفوسهم، فيكون الله أحبَّ إليهم من أزواجهم وأولادهم وأموالهم﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ (التوبة: 24). أيها الإخوان الأحباء.. نحن نريد أن ننتفع بهذا انتفاعًا حقيقيًّا.. نريد أن تتصل قلوبنا بالله، وأن تشرق عليها أنوارُ معرفته، ونعتمد اعتمادًا حقيقيًّا على الله في كل شيء”(حسن البنا، حديث الثلاثاء، بتصرف).
أخي الحبيب: إن التفاف الأمة حول هذه الغاية هو الطريق الوحيد للنهضة، واستعادة مجد الإسلام الغارب، والتفاف طليعة رائدة من الأمة حول هذه الغاية هو المقدمة فقط لهذه النهضة، وتفسير ذلك يوضحه مرشدنا المؤسس رحمه الله فيقول: “وذلك أنّ كل أمة بين طورين لا ثالث لهما، يخلف كلّ منهما الآخر متى توفّرت دواعيه وأسبابه، هذان الطوران هما طور القوة وطور الضعف. فالأمة تقوى إذا حدّدت غايتها، وعرفت مثلها الأعلى، ورسمت منهاجها، وصمّمت على الوصول إلى الغاية، وتنفيذ المنهاج ومحاكاة المثل مهما كلفها ذلك من تضحيات. إذا صدقت عزيمة الأمة، وقويت إرادتها فى ذلك، فقد قويت قوة مطّردة، لا تزال تزداد حتى تتنسّم غوارب المجد، ولا يمكن لأية قوة فى الأرض أن تضعف هذه القوة، أو تنال من تلك الأمة وهى على هذا الحال. ولا تزال الأمة كذلك بخير حتى تنسى الغاية، وتجهل المثل، وتضل المنهاج، وتؤثر المنفعة والمتعة على الجهاد والتضحية، وتهن العزائم، وتضعف الإرادات، وتنحل الأخلاق، ويكون مظهر ذلك: الإغراق فى الترف، والقعود عن الواجب، وحينئذ تأخذ الأمة فى الضعف، ويدب إليها دبيب السقم الاجتماعى، ولا تزال تضعف حتى تتجدد أو تبيد. وسبيل التجدّد: أن يتيح الله لها الطبيب الماهر فيهتدى إلى الدواء الناجع، وتتبعه الأمة فى تناول هذا الدواء، فتموت جراثيم المرض، وتعود إليها القوة، وتلك مهمة المصلحين والقادة، مصابيح الهدى، وشموس النهضات، بهم تنجلى كل فتنة عمياء. إنّ فى ذلك لعبرة لأمم الإسلام فى نهضتها الحالية لو أرادت أن تعتبر، فلا مجال لليأس. وهذه سبيل القوة: حدّدوا الغاية، واعرفوا المثل، وارسموا المنهاج، واصبروا على الجهاد، وأعدّوا له عدته، والنصر من وراء ذلك إن شاء الله: ﴿عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾(الأعراف: 129)”(حسن البنا، نظرات في القرآن، بتصرف).
أخي الحبيب: حول مشروع النهضة لهذه الأمة وغايته وملامحه يقول مرشدنا الراحل مصطفي مشهور رحمه الله: “وتتمثل الغاية الأساسية لهذا المشروع بمفاهيمه ومدركاته، وثوابته ومتغيراته، وتوازناته ومحركاته، وحريته وقيوده، وضوابطه وأحكامه، وقيميته وماديته، وتراثيته وتقدميته، وكفاءته وعدالته، وديمومية صلاحياته وإنجازاته مكانياً وزمانياً في عبادة الخالق تبارك وتعالى بالمعنى الواسع، الذى يشمل فرض بناء الإنسان وإعمار الأرض تحقيقاً للحياة الطيبة الكريمة، أي توفير “تمام الكفاية” لكل فرد يعيش في كنفه. ولتحقيق هذه الغاية، جمع المشروع في تناغم طبيعي وتوازن واقعي بين المادة والروح، وبين الشرائع والشعائر، وبين الفرد والجماعة، وبين الآخرة والأولى، وحقق التناسق الفاعل بين هذه العناصر، مؤكداً على تكاملها لا تنافرها، في عدالة واعتدال، ومحدداً أدوار العمل الصالح وواضعاً الضوابط الحاكمة للأداء، لمنع الممارسات الخاطئة خلقاً، والمعوقة فعلاً لمسيرة الاستخدام الأشمل والأكفأ للموارد، والمعطلة عملاً لمسيرة تقدم المجتمع، وإذا ما حدثت انحرافات، ويمكن واقعياً أن تحدث، فإنها بالقطع وقتية، يصححها المشروع آنياً وذاتياً من خلال رقابة ذاتية متيقظة على الأداء على كافة المستويات”(مصطفي مشهور، الرسالة الأسبوعية).
أخي الحبيب: إن النكوص عن هذه الغاية أو تنكب الطريق عنها له آثاره المدمرة علي الفرد الأمة في المعاش وفي المعاد، يقول مرشدنا المؤسس رحمه الله: “والمسلم الحق فى هذه الحياة: الله غايته، والرسول قدوته والجهاد وسيلته والشهادة أمنيته، فإذا كان فى الحياة شئ من نفس أو أهل أو مال أو عشيرة. أحب إليه من الغاية والقدوة والوسيلة، فقد فسق عن أمر ربه، واستوجب عقوبة الخارجين عن طاعة مولاه﴿قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾(التوبة: 24 ). وقد جرت سنة الله تبارك وتعالى، ورتب القرآن الكريم النتيجة الواقعية التى لا تتخلف على موقف الناس من هذه القاعدة، فكل أمة أو جماعة أو شعب أو قبيل قدم مبادئ الحق والخير على عرض الحياة وجاهد فى سبيلها، كانت النتيجة الحتمية الواقعية النصر وجميل العوض فى الدنيا، والمثوبة وحسن الجزاء فى الآخرة. ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾( آل عمران: 146 – 148 ). وما من أمة أو جماعة أو قبيل آثرت الحياة الدنيا وقعدت عن الجهاد والعمل إلا ضربها الله بالذلة والمسكنة فى هذه الحياة، وضاع ما فى أيديها من عزتها وسلطانها، وأخذهم الله بعد بأشد العقوبة: ﴿قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون * قال رب إنى لا أملك إلى نفسى وأخى فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين * قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون فى الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين﴾“( المائدة 24 – 26 )”(حسن البنا، مجموعة المقالات، بتصرف).
أخي الحبيب: إن وضوح الغاية منذ البداية عامل حاسم في التربية، وأساسي لكل من أراد أن يسير في طريق الله خلف قافلة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين: وهذا يستلزم وضوح طبيعة الطريق وما فيه من تضحيات جسام، وتأمل معي هذا الوضوح مع الطليعة المؤمنة حول الغاية وطبيعة الطريق: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ (البقر: 151 – 157) يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: “فلابد من وقفة أمام هذه الخاتمة في تلك التعبئة للصف الإسلامي. التعبئة في مواجهة المشقة والجهد، والاستشهاد والقتل، والجوع والخوف، ونقص الأموال والأنفس والثمرات. والتعبئة في هذه المعركة الطويلة الشاقة العظيمة التكاليف. إن اللّه يضع هذا كله في كفة. ويضع في الكفة الأخرى أمرا واحدا..صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون..إنه لا يعدهم هنا نصراً، ولا يعدهم هنا تمكيناً، ولا يعدهم هنا مغانم، ولا يعدهم هنا شيئاً إلا صلوات اللّه ورحمته وشهادته..لقد كان اللّه يعد هذه الجماعة لأمر أكبر من ذواتها وأكبر من حياتها. فكان من ثم يجردها من كل غاية، ومن كل هدف، ومن كل رغبة من الرغبات البشرية، حتى الرغبة في انتصار العقيدة، كان يجردها من كل شائبة تشوب التجرد المطلق له ولطاعته ولدعوته..كان عليهم أن يمضوا في طريقهم لا يتطلعون إلى شيء إلا رضى اللّه وصلواته ورحمته وشهادته لهم بأنهم مهتدون..هذا هو الهدف، وهذه هي الغاية، وهذه هي الثمرة الحلوة التي تهفو إليها قلوبهم وحدها.. فأما ما يكتبه اللّه لهم بعد ذلك من النصر والتمكين فليس لهم، إنما هو لدعوة اللّه التي يحملونها. إن لهم في صلوات اللّه ورحمته وشهادته جزاء. جزاء على التضحية بالأموال والأنفس والثمرات. وجزاء على الخوف والجوع والشدة. وجزاء على القتل والشهادة.. إن الكفة ترجح بهذا العطاء فهو أثقل في الميزان من كل عطاء. أرجح من النصر، وأرجح من التمكين، وأرجح من شفاء غيظ الصدور. هذه هي التربية التي أخذ اللّه بها الصف المسلم ليعده ذلك الإعداد العجيب، وهذا هو المنهج الإلهي في التربية لمن يريد استخلاصهم لنفسه ودعوته ودينه من بين البشر أجمعين”(سيد قطب، في ظلال القرآن).
اللهم لك الحمد الذي ترضاه لنفسك حمداً بلا عد ولا إحصاء ولا حساب، وصل اللهم وسلم وبارك علي محمد النبي الأمي الذي لم يتعلم من كتاب، وارض اللهم عن جميع الآل والأصحاب، وعن التابعين لهم بإحسان إلي يوم العرض والحساب، برحمتك ومَنّكَ وكرمك يا كريم يا وهاب.
اللهم إنك تَعْلَمُ ما استقرَّ في قلوبنا، ورسخَ في أفئدتنا، وملأ علينا جوانحنَا، من حبك والحرص علي مرضاتك، وحب أنبيائك ورسلك، وحب دينك وكتابك ومنهجك، وحب الصالحين من عبادك، وتَعْلَمُ حالنا وضعفنا وفاقتنا، وحاجتنا إلي معونتك، وافتقارنا إلي رحمتك، ورجاءنا في ثوابك، وخوفنا من عقابك، وفرارنا من أنفسنا إليك، واستغاثتنا بك وحدك دون أحد من خلقك، وبراءتنا من قوتنا إلي قوتك، ومن علمنا إلي علمك، ومن تدبيرنا إلي تدبيرك، واعترافنا بتقصيرنا في حقك، وقصور أعمالنا عن بلوغ شكر نعمتك، فامنن علينا بفيض من رحمتك تبدد به مخاوفنا، وتبلغنا به مأمننا، وتضمد به جراحنا، وتشفي به أسقامنا، وتثلج به حر قلوبنا. يا أكرم مسئول، وأعظم مأمول.
اللهم أنت غايتنا، لا نرجو سواك، ولا نخاف إلاك، ولا نأمل في غيرك، نرجو رحمتك، ونخشي عذابك، فامنن علينا بفضلك وأعطنا ما نرجو، وتكرم علينا برحمتك ونجنا مما نخاف، وأعنا يا ربنا علي ذكرك وشكرك وحسن عبادك، وزودنا بالتقوي في سيرنا إليك، وأغثنا بمدد من عندك تثبتا به علي الحق والهدي، وتصرف به عنا كل أسباب الهلاك والردي، وارزقنا حسن التوكل عليك، ودوام الإقبال إليك، ولا تجعل حاجتنا إلا إليك، ولا تذللنا إلا لعظمتك، ولا تطردنا من ساحتك، ولا تردنا عن باب جودك، وتفضل علينا بقبول القليل من أعمالنا، وخلصنا من حظوظ أنفسنا، واجعل حبنا لك شافعاً لنا عندك يا رب العالمين.
اللهم فك أسرنا، واجبر كسرنا، ولم شعثنا، واجمع شملنا، وأصلح شأننا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا، وكن لنا ولا تكن علينا، وآثرنا ولا تؤثر عليناً، وارفعنا ولا ترفع علينا، وانصرنا ولا تنصر عينا، وأعنا ولا تعن علينا، وامكر لنا ولا تمكر بنا، وادفع عنا ولا تدفعنا، وارفعنا ولا تضعنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وأكرمنا ولا تهنا، واسترنا ولا تفضحنا، ونعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا ملجأ منك إلا إليك، نعوذ بنور وجهك الكريم الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والأخرة أن ينزل بنا غضبك، أو يحل علينا سخطك. لك العتبي حتي ترضي ولا حول ولا قوة إلا بك. اللهم لا تتركنا في غمرة، ولا تأخذنا علي غرة، ولا تجعلنا من الغافلين، ولا تكلنا إلي أنفسنا فنضل، ولا إلي غيرك فنذل، واغفر لنا إن زللنا، وسامحنا إن أخطأنا، وتب علينا لنتوب، واغفر لنا الخطايا والذنوب، وبدل سيئاتنا حسنات، وأحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وغذاب الآخرة، يا أرحم الراحمين.