كاريكاتير نافذة دمياط

30 يونيو… ثورةُ العسكر على الديمقراطية

لم تكن حركة 30 يونيو (2013) في مصر فقط مجرد مؤامرة محبوكة مكّنت النظامَ، الذي أسقطته ثورة 25 يناير، من استعادة المبادرة والانقضاض على السلطة، بل كانت، أيضا، اختبارا لمدى قوة الدولة العميقة في مصر، والوطن العربي بوجه عام، وقدرتها على مجابهة مطالب الدمقرطة والإصلاح السياسي، وتدويرها بما يفضي إلى الالتفاف عليها وإفراغها من مضمونها.

نجح العسكر في تسويق “30 يونيو” وكأنها ثورة شعبية عارمة ضد حكم رئيس مستبد ومتعطش للسلطة. وما كان لهذه ”الثورة” أن تصيب ذلك النجاح، لو لم تتوفر لها حزمة عوامل: المصالح الاقتصادية الحيوية للجيش المصري، والإعلام الفاسد، ودعم السعودية والإمارات، والأخطاء القاتلة التي ارتكبها الرئيس محمد مرسي. وقد تبدّت دلالة هذه العوامل، مجتمعةً، في اختلاق قصة ضلوع جماعة الإخوان المسلمين في مؤامرة مع الولايات المتحدة لتقسيم شبه جزيرة سيناء، استنادا إلى ما أوردته وزيرة الخارجية الأميركية، حينها، هيلاري كلينتون، في مذكراتها. ولعل الطريف في الأمر، أن هذه المؤامرة المزعومة التي لا أثر لها في تلك المذكرات وجدت لها صدى واسعا على امتداد الجغرافية العربية البائسة.

وظّفت الدولة العميقة أخطاء مرسي في التعبئة السياسية والإعلامية التي سبقت مظاهرات 30 يونيو، ونجحت في تشكيل قوى معارضة جديدة لحكمه، أبرزها جبهة الإنقاذ وحركة ”تمرّد” اللتان تقاطعت مصالحهما، بشكل مفاجئ ومريب، مع الحاضنة الاجتماعية والسياسية لنظام حسني مبارك. ولعل النجاح الأكبر لهذه الدولة العميقة كان جرَّ أحد أطياف الإسلام السياسي، ممثلا، في حزب النور السلفي، إلى جبهة المعارضين لمرسي، حتى لا يبدو الأمر وكأنه موجه ضد الإسلاميين بقدر ما هو موجه ضد أدائهم في الحكم.

بالموازاة مع ذلك، دشنت “30 يونيو” صراعا جديدا على الرمزية الثورية لا يزال مستمرا. كان العسكر يُدركون أن ثورة 25 يناير باتت تحوز شرعية تاريخية ورمزية في الوجدان الشعبي المصري، وكانت دعوتها إلى الانتقال إلى الجمهورية الثانية دلالةً على رفض استمرار تحكّم هؤلاء في المفاصل الحساسة للدولة المصرية. وشكلت أعداد المتظاهرين الذين نزلوا إلى الساحات والشوارع، في 30 يونيو، مثارَ تقاطبٍ سياسي واضح، وأعطت القوى السياسية والاجتماعية المؤيدة للانقلاب الانطباع، للداخل والخارج، بأن ما يحدث ثورة شعبية من صنع ملايين المصريين الحانقين على حكم الإخوان المسلمين، في سعيٍ منها إلى سحب البساط من ثورة 25 يناير، ورصيدها النضالي والرمزي.

أوهم العسكر الجميع أن سقف مظاهرات 30 يونيو لن يتجاوز مطالبة مرسي بإجراء انتخابات رئاسية مبكّرة، في حين كان الأمر يتعلق باللمسات الأخيرة على الانقلاب المعلوم الذي كان ثورةً على ديمقراطيةٍ فتيةٍ، غدت تهدد مكاسبهم التي راكموها منذ 1952. وكانت السعودية والإمارات تدركان أن إقامة الديمقراطية في بلد كبير، مثل مصر، ستترتب عليها تبعات إقليمية يصعب التكهن بطبيعتها على المدى البعيد. ولذلك كان الإجهاز على هذه الديمقراطية مسألة حياة أو موت بالنسبة لهما.

مؤكّد أن مسؤولية “الإخوان” قائمة في الأحداث التي شهدتها مصر خلال حكم مرسي، فلم يكونوا قارئين جيدين لتجارب التحوّل الديمقراطي ومَطبّاتها، فأخفقوا، بشكل دراماتيكي، في فك الارتباط بين منطقي الدولة المحكومة بتوازنات دقيقة والجماعة المحكومة بامتداداتها الدعوية والأهلية. وخانتهم الخبرة في إدارة التدافع الفكري والسياسي الذي أفرزته ثورة 25 يناير على أكثر من واجهة. وقد استثمرت الدولة العميقة ذلك الإخفاق المدوي جيدا واستخلصت عوائده، مستفيدةً من خبرتها الطويلة وعلاقاتها المتشعبة مع دوائر الأمن والمال والأعمال والإعلام. وبذلك نجح النظام، الذي أسقطت ثورة 25 يناير رأسَهُ، في التقاط أنفاسه وإعادة ترتيب أوراقه والعودة إلى السلطة.

لم تكن “30 يونيو” مجرّد انقلاب على شرعية رئيس مدني منتخب، بل كانت، كذلك، ثورة عسكرية، بحاضنة مدنية، على الديمقراطية التي تنبني على سيادة الشعب، وفصل السلطات، والتداول السلمي على السلطة، وعدم إقحام الجيش في معترك السياسة. وإقليميا، أعطت الضوء الأخضر لتشغيل محرّك الثورة المضادّة، وتصفيةِ القضية الفلسطينية، وإرساءِ الاستبداد الجديد، وإطلاق يدِ العنف والفوضى والاحتراب الأهلي، لتكون بدائلَ عن تطلع الشعوب نحو تحرّرها.

دلالات