25 يناير الذي يجب أن نخجل منه


كتبه وائل قنديل :

قبل سقوط حسني مبارك بخمسة أيام فقط، سألت الدكتور محمد البرادعي عن قراءته  للمشهد، فكان ردّه أنه يتوقع سقوطه خلال أسابيع، غير أن ثورة يناير كانت أسرع بكثير. .. في منزله، على أطراف الجيزة، سألت البرادعي، بعد يومين فقط من موقعة الجمل: ما هي توقعاتك للأيام المقبلة؟ فقال: النظام سيسقط أسرع مما أتوقع، عمره الافتراضى انتهى. قلت له: كم من الزمن بالتحديد؟ قال البرادعي: اعتقد أسابيع، وكل هذه العملية التي يقود بها عمر سليمان ليس لها مصداقية، ولن تؤدي إلى شيء، وستستمر المظاهرات والغضب، لأن الناس عايزة تاكل وتعيش، ومش عايزين المسألة تتحول لحربٍ أهلية تأخد الأخضر واليابس.

كان للثورة رأي آخر، أكثر حسمًا، إذ لم تنتظر أسابيع، ولا حتى ارتضت أسبوعًا واحدًا لرحيل مبارك، بل أسقطته بعد خمسة أيام فقط من إجابة البرادعي الذي كنت أراه بحق الرمز الأبرز لها، وكتبت وقتها تحت عنوان “شكرًا محمد البرادعي”:

“الموضوعية تقتضى الآن القول إن ملايين الشباب الذى ثاروا وخرجوا لاستعادة مصر من خاطفيها كانوا فى معظمهم نتاجا طبيعيا لحالة الحراك والتفاعلية التى أحدثها محمد البرادعي، ودعوته للتغيير ونزوله إلى الشارع في مناسباتٍ ليست كثيرة، إلا أنها كانت بالغة الأثر في كسر حاجز الخوف، وهدم جدران الإحساس باللاجدوى. وعليه اكتسبت الجماهير الحالمة بالتغيير مهارة النزول إلى الشارع، ومخاطبة قطاعاتٍ عديدةٍ من الشعب، تفاعلت مع بيان التغيير والمطالب السبعة”.

بعد مرور ثماني سنوات على ثورة يناير، أتلفت حولي، وأنظر إلى نفسي، فأجد خجلًا يلفّ جميع من شاركوا فيها، فيأتي التذكّر هذه المرة، غارقًا في الأسى على ما فرّطنا فيه جميعًا، هذا الحلم الذي أدهش العالم، وأنعش الآمال لدى كل المتطلعين للحرية والكرامة في محيطنا العربي كله، لكننا لم نحافظ عليه، ولم نرحمه، حتى جاء اليوم الذي نجد فيه سؤالًا يدقّ رؤوسنا بعنف: هل نستحق يناير؟ هل نحن جديرون بدماء أكثر من 850 شهيدًا صنعوا لنا تغييرًا لم نصُنه؟.

في وسط هذه النوستالجيا المسكونة بالخجل، ما زال أهل يناير لا يمتلكون روايةً واحدةً، صحيحة، لها، فيتنابذون بالأفضال، ويتنازعون الفضائل والمزايا، ويكذبون على أنفسهم، وعلى التاريخ، فتأخذ الذكرى شكلًا كربلائيًا، يليق بمهزومين يتناوبون لطم وجه التاريخ، وتلوينه بمساحيق الابتذال والسرد الملوث بكل عوادم الاستقطاب والاستقطاب.. ثم يتحدّثون، بمنتهى السطحية، عن ضرورة الاصطفاف من أجل استعادة ما تبدّد.

كيف يكون الاصطفاف، ونحن غير متفقين على الرواية الموضوعية للثورة، وكل طرفٍ منشغل بالبحث عن البراءة الكاملة لنفسه والإدانة المطلقة لبقية الأطراف؟ لقد وصلت بنا المأساة إلى السباحة في مستنقع “الأنا والآخر”، ونحن نتحدث عن ثورةٍ كان فيها “الكل في واحد”، بينما أعداء هذه الثورة ينفردون بالرواية الكذوب عنها، ويعملون كل أدواتهم وأسلحتهم في سحق الذاكرة وإضرام النار في الوعي والوجدان.

لقد مضت ثمانية أعوام على الثورة، وخمسة أعوام على الانقلاب عليها، ولا يزال بعض البؤساء يصرّون على المسافحة بين “25 يناير”، بنقائها وطهرها، و”30 يونيو” بتلوثه وبشاعته.