ومضات نبوية

حصلت بين أبو بكر الصديق و عمر بن الخطاب – رضى الله عنهما- محاورة ومراجعة في الحديث وكان أبو بكر رجلاً فيه حدة فبدرت منه بادرة أسرع فيها القول غضب منها عمر ثم أسف منها أبو بكر، فانصرف عمر مغضباً وتبعه أبو بكر نادماً يسأله أن يغفر له، ولكن سورة الغضب في نفس عمر كانت شديدة فأبى عليه ومضى عنه حتى دخل داره وأغلق بابه في وجه أبي بكر، لقد كان غضب عمر شديداً ولكن أبا بكر كان أشد منه ندماً، ولذا فإنه لما عجز عن استعتاب عمر واسترضائه ذهب فزعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فما فجئ الصحابة في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وأبو بكر قد أقبل مسرعاً آخذاً بأطراف ثوبه حتى بدت ركبتاه.
فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم مقبلاً قال: أما صاحبكم هذا فقد غامر” أي دخل في غمرة أمر عظيم، حتى إذا دنا أبو بكر من النبي صلى الله عليه وسلم سلَّم عليه ثم جلس وقال: يا رسول الله إنه كان بيني وبين عمر شيء فأسرعت إليه، ثم إني ندمت على ما كان مني فسألته أن يغفر لي فأبى عليّ، فتبعته حتى دخل داره فأقبلت إليك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”يغفر الله لك يا أبا بكر، يغفر الله لك يا أبا بكر، يغفر الله لك يا أبا بكر”.
أما عمر رضي الله عنه فسرعان ما أطفأ غضبَه شديدُ حبه لأبي بكر ومعرفتُه بقدره وسابقته، وندم أن أبا بكر سأله أن يغفر له فأبى عليه، فخرج من منـزله يتطلب أبا بكر ليُعتبه ويبادله التصافح والرضا، فأتى منـزله فسأل: أثم أبو بكر؟ فقال أهله: لا ولعله ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى عمر إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لعله يلقى أبا بكر هناك، فلما جلس جعل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمعر ويتلون غضباً من عمر أن اعتذر إليه أبو بكر فلم يقبل منه، حتى عرف من في المجلس شدة غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما رأى ذلك أبو بكر أشفق، وخشى أن يكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمر ما يكره فجثا على ركبتيه وأقبل على النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: يا رسول الله، والله أنا كنت أظلم، والله أنا كنت أظلم. فقال رسول الله عليه وسلم:”يا أيها الناس، إن الله ابتعثني إليكم فقلت: يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً فقلتم: كذبت وقال أبو بكر صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركون لي صاحبي، فهل أنتم تاركون لي صاحبي، فهل أنتم تاركون لي صاحبي”. فما أوذي أبو بكر بعدها من أحد لَما رأى الصحابة من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم له وإظهار حقه ومكانته رضي الله عنهم وأرضاهم.
وهنا نلحظ معاني منها:
– أن مجتمع الصحابة رضوان الله عليهم هو المجتمع المثالي أخلاقياً؛ وذلك للتربية العالية التي رباهم عليها صاحب الخلق العظيم صلى الله عليه وسلم، وللسمو النفسي الذي يترقون إليه بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع ذلك تحصل بينهم هذه النـزعات البشرية، فلو كان مجتمع يخلو من ذلك لكان مجتمع الصحابة رضوان الله عليهم، ولو كان أحد من الأمة يستثنى من ذلك لكان أبو بكر وعمر، وهذا يلفتنا إلى النظرة الواقعية إلى أنفسنا ومجتمعنا، فلا نكون قساة على أنفسنا مغرقين في المثالية حينما تبدر منا مثل هذه البوادر “فقد خُلِق الإنسان خلقاً لا يتمالك” ولكن العبرة بالتحكم بحجمها إذا غُلبنا على التحكم بصدورها، ثم إيقاف تداعياتها واحتواء أثرها، وسرعة المراجعة والرجوع بدلاً من اللجج والتمادي.
– أن هذه المواقف وإن أثرت في وقتها إلا أن تأثيرها انفعالات عابرة وتبقى الأخوة الراسخة هي الثابتة والباقية، فأبو بكر رضي الله عنه الذي غضب من عمر هذا الغضب ثم لقي منه هذا الإعراض هو الذي لما حضرته الوفاة لم يكن في قلبه أزكى وأبر من عمر ليعهد إليه بولاية أمر المسلمين، وأن يكون الخليفة عليهم من بعده، وأما عمر رضي الله عنه فهو الذي بلغ من تعظيمه لأبي بكر وحبه له أن يقول:”لأن أُقدم فتضرب عنقي أحب إلي من أن أكون أميراً على قوم فيهم أبو بكر”.
– هذا العرفان العظيم من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر، والتذكير بسابقته وبلائه بنفسه وماله، ولذا غضب النبي صلى الله عليه وسلم له هذا الغضب حتى تمعر وجهه، ثم جعل يناشد أمته أن تعرف لصاحبه حقه: (فهل أنتم تاركون لي صاحبي؟). وفي ذلك وفاء كريم من النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر، وإظهار لسبقه الذي لا يلحق، وعظيم مكانه في الأمة، وكبير حقه عليها رضي الله عنه وأرضاه، كما أن ثمة إشارة إلى أن ذوي المناقب الكبيرة يعاملون بما يليق بفضلهم ومكانتهم، وتُعرف لهم في المواقف فضائلهم وأقدارهم.
#ومضات_نبوية
#ومضات