ميلاد الرسول.. رؤية اقتصادية

حينما يطالع المرء مظاهر الحفاوة بميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم في تركيا، يعود بذاكرة الطفولة إلى مصر. فمظاهر الاحتفال بذلك المولد العظيم تكاد تكون واحدة لصاحب الفضل الأعظم في هداية البشرية إلى طريق الحق، نبي الرحمة للعالمين جميعا، لا سيما وأن المتتبع لتلك الحفاوة بتركيا يعي جيدا قيمتها في المحافظة على دين الله في قلوب الأتراك، أجيالا وأجيال، بعد إعلان الحرب علي الدين وإلغاء الخلافة الإسلامية في العام 1924م.

إن ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم يحمل لكل مسلم اعتقد اعتقادا جازما بأن الله ورسوله أحب إليه مما سواهما؛ قيمة كبرى ومشكاة عظمى تعين للسير على طريق الأسوة والقدوة.. قولا وعملا.. دينا وخلقا.. عبادة ومعاملة.

وإذا كان الدين المعاملة، والمعاملة المالية هي الإطار الحاكم للاقتصاد، فإن في ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم من الإشراقات الاقتصادية والأعمال الاقتصادية الربانية، ما يعين المرء على فهم الأبعاد الاقتصادية الحاكمة لسلوكه بصورة تجمع بين حسنة الدنيا من زراعة وصناعة وتجارة حسنة، وحسنة الآخرة من جنة عرضها السموات والأرض.

ومن حسن حسنة الدنيا، ما يهبه الله لعباده من بركة اقتصادية تحول بينهم وبين الفقر، وتجعل من العبد ربانيا لا ماديا، لا سيما وأن الله تعالى ربط بين التنمية الإيمانية والتنمية الاقتصادية، فجعل الثانية نتاج للأولى في قوله تعالى: “ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض” (الأعراف: 96).

والناظر إلى البركة الاقتصادية في ميلاد الرسول يجدها مثالا حيا ملازما له منذ نعومة أظفاره، حينما كان مع مرضعته السيدة حليمة بنت ذؤيب السعدية؛ التي لم تجد حيلة إلا أخذه بعد أن امتنعت المرضعات عن ذلك ليتمه، فكان فاتحة خير عليها وعلى أهلها.

كما برز الجانب الاقتصادي واضحا في حياة محمد الطفل من رجولة مبكرة واعتماد على النفس لا مثيل له، فلم يركن النبي صلى الله عليه وسلم منذ صغره إلى الاعتماد على غيره. فبعد أن ذاق اليتم ثلاث مرات: يُتم الأب وهو في بطن أمه، ويتم الأم وهو ابن خمس سنين، ويتم من تولى كفالته (جده عبد المطلب) وهو ابن ثماني سنين، وانتقال كفالته لعمه أبي طالب، رأى الحالة الاقتصادية غير المتيسرة لعمه، فعمل صلى الله عليه وسلم برعي الغنم لمساعدة عمه. وفي الحديث: “ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم. فقال أصحاب: وأنت؟ فقال: كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة”.. رواه البخاري.

إن اعتماد النبي على ذاته في الكسب رسالة واضحة بأن الكلمة حتى تخرج من الفم حرة أبية يجب أن لا يتحكم في إطعام هذا الفم غير صاحبه، وأن من يكون عالة على غيره لا يمكن أن يكون قراره ناتجا عن إرادة حقيقية. فالمسلم مطالب بالاعتماد في معيشته على جهده وكده، حتى لا يكون لأحد من الناس منة أو فضل يحول بينه وبين الصدع بالحق.

وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكبر على عمل وعمل برعي الغنم، فإنه بعد ذلك عمل رجل أعمال في مال سيدة أعمال من أشراف وسادات قريش هي السيدة خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها – حيث بلغها صدق محمد صلى الله عليه وسلم وأمانته وكرم أخلاقه، فعرضت عليه أن يخرج في مالها إلى الشام تاجرا، ورأت خديجة رضي الله عنها من البركات الاقتصادية في مالها ما لم تجده من قبل، وكان ذلك سببا في طلبها الزواج من النبي صلى الله عليه وسلم.

إن ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم فرصة لكل مسلم لتجديد القلوب بمحبة رسوله، وإبراز قيمة الاقتصاد في حياة الأمة قولا وعملا. فالأمة التي تهمل إنتاجها ولا تستغل مهارات وقدرات أبنائها، وتعتمد على غيرها في تلبية حاجاتها؛ هي أمة ضائعة ومغيبة، فلا مكان يذكر لاقتصادها، ولا مستقبل مشرقا ينتظرها. وما أحوجنا في ذكرى ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم أن نتمثل الشخصية الاقتصادية الناجحة والمتميزة التي لخصتها السيدة خديجة رضي الله عنها في قولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم نزول الوحي عليه: “إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق”.