مورستان يحارب أردوغان

تبدو مصر مع عبد الفتاح السيسي كأنها دولة هاربة باستمرار من واجباتها الحقيقية، أو إن شئت الدقة تهرب من سؤال اللحظة، باستدعاء سؤال آخر في غير وقته، فتمارس طوال الوقت نوعًا من نزق التلميذ الخائب.

يمارس عبد الفتاح السيسي، طوال الوقت، لعبة القفز من ملف إلى آخر، كلما واجه استحقاقًا لا يقبل التأجيل، فإذا كان الموضوع هو ليبيا يتم تحويل مجرى الكلام باتجاه موضوع مياه النيل مع إثيوبيا، والعكس أيضًا، فإذا فرضت اللحظة ردًا فوريًا وواضحًا على أسئلة النيل، يكون في بحر الرمال الليبي مهربًا من المواجهة. وفي كل الأحوال، هناك ملف سيناء جاهز دومًا للاستخدام، إذا انكشفت سوءات النظام، وبشكل خاص مع معزوفة الفشل والبلادة التي تؤدّيها السلطات في ملف وباء كورونا، حيث تنفرد مصر بأنها الدولة الوحيدة في العالم التي تحارب الجائحة بالتخلص من الأطباء المعالجين، إذ شكل الأطباء في أيام متعاقبة نحو عشرين بالمائة من عدد حالات الوفاة بالفيروس القاتل.

من يتوقف قليلًا عند ملامح المشهد المصري هذه الأيام يجد شيئًا أقرب إلى المورستان، الاسم الشائع لمستشفى المجانين، إذ تتعالى دقّات طبول الحرب، في الصحف والفضائيات، ضد الغازي التركي، بينما الحرب الحقيقية، القذرة، التي تدور بالفعل، وتستحوذ على الاهتمام وتلقى الرعاية من القائمين على السيرك الإعلامي المصري، هي تلك المعركة بين المستشار رئيس نادي الزمالك والمستشار المستقيل من النادي الأهلي، خصيصًا لخوض القتال، والتي تشهد استخدامًا عنيفًا لنصف احتياطي العالم من البذاءة والأسلحة الجرثومية القاتلة لأي قيمة أخلاقية أو معنى إنساني، فيما يدّعي كلا المتحاربين أنه ابن الدولة وحارس الوطن والمعبّر الحقيقي عن حكمة الزعيم عبد الفتاح السيسي وعبثريته. وفي وطيس القتال، يتم حشر موضوع ليبيا و”أطماع العدو التركي” المتربص بمصر الكبيرة العظيمة، بل يرى رئيس نادي الزمالك في وصوله إلى رئاسة النادي إنجازًا وطنيًا وقوميًا، أو بتعبيره هو الوجه الآخر لوصول الجنرال عبد الفتاح السيسي إلى السلطة، وهما المناسبتان اللتان جمعهما تاريخ واحد، ومشروع واحد، فوجب على الشعب، شعب الزمالك وشعب مصر، أن يحتفلا بهذه المناسبة القومية العظيمة، وأن يطمئنا على المستقبل، لأن رئيس كل منهما “دكر”، بتعبيره الذي لا يقل ابتذالًا وإسفافًا عن منتجات دار الإفتاء المصرية، التي يبدو أنها قرّرت أن تدخل في منافسةٍ مع فتيات التيك توك، فتركت كل ما يدور حولها وتفرّغت للحرب على تركيا، من زاوية الدفاع عن كنيسة آيا صوفيا في اسطنبول والتي حوّلها الوغد أردوغان إلى مسجد مرة أخرى، ووصل بها الشطط إلى اعتبار الفتح العثماني للقسطنطينية احتلالًا، قبل أن تعود في اليوم التالي لتلعق ما تقيأته على الناس، تحت اسم “فتوى”، وتتراجع عن رأيها في الفتح والفاتح، وتواصل سباب أردوغان.

تلك هي تفاصيل الصورة في مصر التي تريد أن تقنع السلطة فيها الشعب بأن لديها من الكفاءة والصلاحية والجدّية ما يؤلها للتعامل المحترم مع ملفاتٍ بحجم المسألة الليبية وقضية مياه النيل، أو حتى أزمة كورونا، بينما الواقع ينطق بأننا بصدد ما وصفته سابقًا “مهرجون يقودون دولة عبثية” يمارسون اللهو في الغرب، حيث الحدود الليبية، عندما يكون الجد والحسم مطلوبين ناحية الجنوب، حيث موضوع نهر النيل، فيتم النفخ في أبواق القتال ضد المستعمر التركي الشرير الذي يريد التهام مصر، ويرتدي الكتاب والمعلقون أزياء السيرك القومي، ويقدّمون فقرات وحركات وطنية عظيمة، أزعم أن منهم من يختلي بنفسه ويضحك حتى يسقط من الإعياء بعد أدائها.

بات العالم يدرك أن مصر محكومة بنظامِ قضيته الأولى والأساسية والوحيدة أن تبقى سجونه كاملة العدد، ومزدحمة بكل من يرفض استنشاق كل هذا “الهراء السام”، المنبعث من دولة حوّلها خاطفوها إلى شيء أقرب إلى “مورستان”، ويريدون إقناع الجماهير بأنهم ذاهبون إلى الحرب على أردوغان، كما فعلوا في يناير/ كانون ثاني الماضي، ثم اكتشف الجميع أنها كانت فقرةً مثيرةً في ملاهي الوطنية المزيفة، على نحو منح الفرصة لباعة جائلين في شوارع الأممية ونواصي الربيع العربي للسخرية من مصر ذاتها، وليس عبد الفتاح السيسي، وإهانة الجندية، وليس حكم العسكر، والتنفيس عن غلّ طافح من وجوه صفيقة تريدها حريقًا، إن اندلع في ليبيا فلن ينجو منه أحد، سوى ذلك الصهيوني السعيد حد الملل بمشاهدة لعبة الانتحار.

………….

نقلا عن “العربي الجديد”