مقاومة الإخوان للإنجليز بمنطقة القناة .. بطولات مسكوت عنها في عيد الشرطة

  • بدأ الاخوان المسلمون سلسلة اجراءات لحشد الرأى العام ضد الوجود الإنجليزى بمنطقة القناة
  • كان الإخوان هم القوة الضاربة في القناة وأظهروا بطولات نادرة بقيادة الشيخ الشهيد محمد فرغلي
  • قاد الإخوان بقيادة كامل الشريف حرب عصابات ضد الإنجليز بمنطقة القناة فأذاقوهم الويلات
  • معركة التل الكبير كانت أروع بطولات المقاومة وارتقى فيها 8 شهداء بينهم 3 من شباب الإخوان
  • شهد النصف الأول من عام 1953 أكثر من 100 عملية فدائية قام بها رجال الإخوان في منطقة القناة

إنسان للإعلام- أشرف الشربيني

أمة بلا ذاكرة هى أمة بلا حاضر أو مستقبل، فذاكرة الشعوب ليست فقط تاريخا يُروى، إنما هى خبرات تتراكم لتصنع وعياً يزيد من مناعة الشعوب فى مواجهة تحديات وجودها واستقلالها.

ومن بين ابتلاءاتنا فى عالمنا العربى والاسلامى، العبث الحاصل بذاكرتنا وتاريخنا، الذي أوقعنا فى فخاخ أعدائنا أكثر من مرة!

بات التاريخ يروى من جانب واحد وتهمل فيه- بشكل متعمد- صفحات مضيئة طواها النسيان الآن.

فى ذكرى 25 يناير كانت هناك بطولات منقطعة النظير للإخوان المسلمين أثناء مقاومتهم للاحتلال الإنجليزي لمصر، وخاصة في مدن القناة.

في هذا التقرير نلقي الضوء على جانب من هذه البطولات حتى تعلم الأجيال الجديدة ماذا قدم “الإخوان المسلمون” في 25 يناير قبل 70 عاما ، الذي أصبح الآن يحتفل به كعيد للشرطة فقط.

معاهدة 1936

عقد مصطفى النحاس رئيس وزراء مصر الأسبق، اتفاقية مع الإنجليز (المحتلون البريطانيون) معاهدة 1936م، والتى بمقتضاها ينسحب الانجليز من داخل القطر المصرى إلى منطقة القناة والمتمثلة في الإسماعيلية والسويس وبورسعيد، وبهذا أصبحت منطقة القناة تحت سيطرة القوات البريطانية.

رفض الإخوان المسلمون هذه الاتفاقية، إذ كانوا يرون القوات الانجليزية قوة احتلال . وعلى هذا الاساس بدأ الاخوان المسلمون فى سلسلة اجراءات لحشد الرأى العام فى اتجاه الجهاد ضد الوجود الإنجليزى بمنطقة القناة .

وكان الاخوان المسلمون فى ذلك جزءًا من تيار شعبى يرى مايراه الاخوان، لكنهم كانوا الجزء الأكبر والاكثر فاعلية فى إيذاء القوات الإنجليزية.

الغاء المعاهدة

في 8 أكتوبر 1951م أعلن مصطفى النحاس باشا، رئيس وزراء حكومة الوفد، إلغاء معاهدة 1936 وكذلك اتفاقية 1899 بشأن السودان . وقابل الإنجليز الأمر باستخفاف، وعلى طول البلاد وعرضها اتبع رجال الأحزاب المصرية وزعماؤها الأمر بالخطب والبيانات إلا الشيخ محمد فرغلي، إحد رموز الإخوان، ومن معه، فقد نزلوا إلى المعركة بعزم وصدق، وجلَد وخبرة. وأعلن تشرشل في لندن أن عنصرًا جديدًا قد نزل إلى ساحة المعركة. (1)

الأمة تبحث عن الاخوان

في العدد 1224 من مجلة (روز اليوسف) كتب الصحفي الشهير إحسان عبد القدوس معبرًا عمَّا يجول بخاطرِ كل أبناء الشعب ونظرتهم للإخوان المسلمين، مناشدًا الإخوان قيادة المعركة: “فيوم يتحرك الإخوان المسلمون ويعرفون كيف يتحركون وإلى أين، فقد اكتملت لمصر قواها الشعبية وضمنت لأيام الجهاد الاستمرار”. (2)

وبالفعل كان في انتظار الإنجليز غريم جديد، جربوه مرة في فلسطين اثناء حرب 1948 ، وتصوروا انهم تخلصوا منه بقتل قائدهم (حسن البنا) وحل جماعتهم (الاخوان المسلمين) ومصادرة ممتلكاتهم .. لكنهم – ككل مرة – اكتشفوا أنهم أخطأوا التقدير.

الاخوان فى ميدان المعركة

أصدرت جماعة الاخوان، برغم انها لم يمض عليها سوى بضعة أشهر من استعادة ممتلكاتها بعد قرار حلها فى ديسمبر 1948م، بيانًا فى 11 اكتوبر 1951م، يعلنون فيه تأييدهم لخطوة الحكومة لحل معاهدة 1936، ثم تحركوا بعد ذلك في مسارين اثنين:

  1.  تضييق الخناق على قوات الاحتلال الانجليزية
  • نظَّم الإخوانُ مظاهراتٍ شعبيةً كان من مطالبها منع العمال المصريين من العملِ في معسكرات الإنجليز وتوفير الأعمال البديلة لهم، ولم تكد المصادمات المسلحة تبدأ حتى استجاب آلاف العمال لنداءِ الإخوان وهجروا مدن القناة ومعهم عائلاتهم، وكانت ضربة أصابت المعسكرات البريطانية بالشلل.
  • وأُجري إحصاء شامل للتجار المتعاملين مع المعسكرات، وأجريت اتصالات سرية معهم فيها تحذير من استمرار التعامل مع الإنجليز وحث لهم على إنقاذ أموالهم وتصفية حساباتهم استعدادًا لتنفيذ الحصار.
  • وبعد أسبوعين وُجه نداء إلى التجار والمقاولين والمزارعين يدعوهم إلى مقاطعة الإنجليز ويهدد باعتبارِ كل مَن يتعامل مع العدو بعد ذلك خائنًا لقضيةِ الوطن، وكان هذا النداء موضوع خطب الجمعة في المساجد والدروس في القرى والمدن، ونجحت الحركة وانقطع تدفق الأغذية عن المعسكرات الإنجليزية.

حين بدأ الإنجليز التحرش بأهالي منطقة القناة، والتعدي على الناس، عمت المظاهرات الشعبية المنطقة كلها، وانعقد مؤتمر كبير بالإسماعيلية برئاسة الشيخ «محمد فرغلي»، حيث تقرر فيه التصدي للإنجليز بالقوة ومقاومتهم، وضربهم في أوكارهم، ومعسكراتهم، وقد حمل الشيخ فرغلي هذا القرار بوصفه رئيس المؤتمر إلى مكتب الإرشاد للإخوان المسلمين بالقاهرة، فتم تعيين الأخ المجاهد كامل الشريف (من إخوان العريش) (3) قائدًا عامًّا للمجاهدين في منطقة القناة ، ليبدأ من بعدها الاخوان المسلمون فى إعداد مراكز تدريب فى مناطق القناة المختلفة.

  1.  حرب عصابات استمرت الى ماقبل انقلاب 52

في أعقاب ذلك، اندلعت حرب عصابات أذاق فيها الإخوان الويلات للإنجليز، ففى يوم واحد استطاع الاخوان المسلمون بقيادة المجاهد كامل الشريف بتنفيذ أكثر من عشرين عملية نسف أو استهداف كمين أو اختطاف أفراد.

وقد تواصلت العمليات الجهادية بأساليب متعددة وضد أهداف مختلفة، منها: مهاجمة دوريات العدو وقذف المئات من سياراته بالقنابل والزجاجات الحارقة، نسف مخازن ذخيرته، تدمير أنابيب المياه التي تغذي معسكراته، نسف قطاراته في مناطق السويس والإسماعيلية، إحراق مخازن الذخيرة والبترول، مهاجمة مطارات الإنجليز العسكرية.. وغيرها من العمليات النوعية التي تولاها أفراد النظام الخاص بالجماعة.

لكن المعركة الاكبر كانت في التل الكبير وما حولها وأحداثها كالتالى:

  1.  قام الإخوان المسلمون في 4 يناير 1952م، بالهجوم على الإنجليز عند نقطة تفتيش العباسة، مما اضطر الإنجليز الى الانسحاب بدباباتهم من المعركة وجرح أحد شباب الاخوان ، واستشهد بعد ذلك بأربع وعشرين ساعة، وهو الشهيد عادل غانم الطالب بكلية الطب ومن شباب الإخوان (4)
  2.  قام الإخوان المسلمون في 12 يناير 1952م ، بنصب كمائن في منطقة يمر بها أحد قطارات قوات الاحتلال الإنجليزية، ثم قاموا بنسف القطار بمن فيه وما فيه .
  3.  وفي اليوم التالي 13 يناير 1952م ، جاءت مجموعة من جنود الإنجليز لمعاينة الحادث، فحاصرهم الاخوان المسلمون، وقتلوا عددا  منهم
  4.  سرعان ما توافدت السيارات والعربات المدرعة والدبابات الإنجليزية، لتبدأ معركة حقيقية بين رجال الاخوان المسلمين وبين الجيش الانجليزى الذى جُرح في كبريائه، واستمرت المعركة أكثر من 6 ساعات متواصلة .
  5.  أسفرت المعركة عن :
    1. استشهاد اثنين من الإخوان هما: أحمد المنيسي وعمر شاهين
    2. استشهاد ستة من شباب قرية حاصرها الانجليز
    3. أسر ستة آخرين من طلاب الاخوان المسلمين

إضطر الانجليز أمام الضغط الشعبي المتزايد ومخافة الانتقام من الإنجليز المقيمين بالقاهرة الى تسليم جثث الشهداء الثمانية .

علقت الصحف البريطانية على تلك المعركة فقالت صحيفة “نيوز كرونيكل” : إن هذه المعركة هي إحدى المعارك الكبيرة التي ثبت فيها المصريون ولم يركنوا إلى الفرار !

وقالت “الديلي ميرور”: ظل المصريون يحاربون لواء الكاميرون الهيلاندرز باستماتة عجيبة! (5)

واستمرت بعد ذلك المعارك سجالا بين رجال الفدائيين ومنهم شباب الإخوان المسلمين وبين الجيش الانجليزى الذى فوجئ بحرب عصابات لم يكن يحسب لها حساب .

صفحة من مجلة روز اليوسف 1954 وفيها حوار مع قائد عمليات الإخوان في القناة

حصار الانجليز لمبنى المحافظة

وكرد فعل على الهجمات ضد الانجليز، حاصرت القوات البريطانية مبنى المحافظة ومديرية الأمن فى ٢٥ يناير ١٩٥٢م.

رفض رجال الشرطة تسليم أسلحتهم ، لتبدأ بعدها معركة بين الشرطة المصرية والقوات البريطانية، أسفرت عن استشهاد 50 شرطيًا وإصابة أكثر من 80 بجروح، بينما سقط من الضباط البريطانيين 13 قتيلا و12 جريحا، وأسر البريطانيون من بقي منهم على قيد الحياة من الضباط والجنود وعلى رأسهم قائدهم اللواء أحمد رائف، ولم يفرج عنهم إلا في فبراير 1952.

وأما مبنى المحافظة، فعندما أنذر قائد قوات الاحتلال يومها المحافظ وأنزل إلى الشوارع جنوده ومصفحاته، توجه الشيخ محمد فرغلي إلى المحافظ في عربة جيب، وفي زيه الأزهري ومعه سلاحه، لينذر الانجليز بضرورة الانسحاب، وليساند رجال الحكومة في موقفهم، وليشد من أزرهم، وانسحب الإنجليز بالفعل من شوارع الإسماعيلية، وسحبوا إنذارهم (6)

يقول الأستاذ كامل الشريف: وفي الإسماعيلية كانت تقوم أقوى تشكيلاتنا السرية، كما توجد القيادة الإدارية الرئيسة لمنطقة القناة ويرأسها داعية محنك عظيم الخبرة هو المرحوم الشيخ (محمد فرغلي) كما يساعده مغامر جسور هو (يوسف طلعت)، وكان للإسماعيلية شبكة للمعلومات من أقدم الشبكات وأقواها، كما كان يعمل فيها عدد من المحترفين والمتفرغين الذين لا عمل لهم، إلا متابعة النشاط البريطاني، وملاحقة العملاء المصريين، والأجانب الذين يعملون لحسابه، وكانت تدور معركة خفية بين هذا الجهاز، وقلم المخابرات البريطاني، وتظهر هذه المعركة أحيانًا على السطح في اشتباكات متفرقة هنا وهناك. (7)

استمرار الاخوان فى قتال الانجليز

  1.  حريق القاهرة .. محاولة لاجهاض المقاومة

في اليوم التالى لمذبحة الإسماعيلية 26 يناير 1952م، وفى محاولة لتخفيف الضغط على الاحتلال الانجليزى بمنطقة القناة ، تمت مؤامرة حريق القاهرة ، مما أوقف حركة العمليات الجهادية في القناة …

وحاول بعدها الانجليز تهدئة الأوضاع في البلاد، لاستثمار حادثة حريق القاهرة . لكن لم يكن يدرى الانجليز بأن عاصفة تتجه نحوهم بأشرس مما كانت من قبل، على يد المجاهد محمود عبده، القائد الجديد الذى عينه الاخوان المسلمين للمجاهدين في منطقة القناة .

  1.  الاخوان ينتقمون لشهداء الشرطة

ولم يكد يمر شهران على حادثة حريق القاهرة، حتى اشتعلت نار المقاومة في جميع مناطق القناة، واندهشت القوات الإنجليزية لهذا العمل المفاجئ الذي شمل المنطقة كلها في وقتٍ واحد.

فقد أعاد الاخوان المسلمون تنظيم صفوفهم من جديد، وشكل تعيين المجاهد محمود عبده نقلة نوعية في عمليات المقاومة ضد الاحتلال الانجليزى في مدن القناة، لتصل عمليات المقاومة الى الذروة في عام 1953م.

يقول القائد المجاهد كامل الشريف: “ولقد أحصينا في النصف الأول من عام 1953م أكثر من 100 حادث اغتيال أو نسف أو اختطاف أسلحة قام بها رجال الإخوان في منطقة القناة وارتفع هذا الرقم أكثر من ذلك خلال النصف الأخير”. (8)

وهكذا اثبت الاخوان المسلمون قدرتهم على تجاوز المحنة التي ألمّت بهم، حيث لم يمض على قرار حل جماعتهم واعتقال قادتهم وقتل مرشدهم (حسن البنا) سوى وقت قليل، إلا انهم سرعان ما استعادوا قوتهم ونظموا صفوفهم ، وبدل أن يتوجهوا الى الملك ورجاله الذين آذوهم وقتلوهم، صبوا جامّ غضبهم على قوات الاحتلال الانجليزى بمنطقة القناة، مساندين حكومة الوفد في قرارها بإلغاء اتفاقية 1936 .

وقد نشرت مجلة “روزاليوسف” حديثاً مطولاً للشيخ فرغلي مع مندوبها وقد وصفته المجلة بأنه الشيخ الغامض الذي يحسب له الإنجليز ألف حساب، حيث قال في حديثه للمجلة: “إن الإخوان المسلمين لا يستطيعون الكف عن محاربة الإنجليز حتى يتمّ جلاء القوات البريطانية، وإن أفضل طريقة أمام القيادة البريطانية لحماية جنودها هي سحبهم من قناة السويس” . (9)

وهكذا  قدمت جماعة الاخوان المسلمون نموذجا نادرا من الوطنية المصرية التي تتجاوز محنتها من اجل مصلحة شعبها .

المصادر

1) في ذكرى إعدامات ديسمبر 54.. الشهيد الداعية محمد فرغلي

2) الإخوان المسلمون والجهاد ضد الإنجليز في القنال

3) حكم عليه عبد الناصر غيابياً بالإعدام مع قرار بسحب الجنسية المصرية منه، فحصل على الجنسية الأردنية في منتصف الخمسينيات ، وعينه الاردن بعد ذلك وزيرا للاوقاف

4) الإخوان المسلمون والجهاد ضد الإنجليز في القنال

5) صفحة من جهاد الإخوان في منطقة القناة

اخوان اون لاين – عامر شماخ

6) الدعوة المصرية، السنة الأولى، عدد 3

نقلا عن اخوان اون لاين

7) المقاومة السرية، ص 48.

نقلا عن اخوان اون لاين

8) المقاومة السرية- كامل الشريف- ص 203

9) الشهيد الجنرال الشيخ محمد فرغلى