لماذا غضب الناس من البذخ في فندق الماسة ؟

Editor11
جمال سلطان :
الضجة هذه المرة جاءت بسبب ما نشر من صور ومشاهد عن فندق فاخر تم إنشاؤه في العاصمة الإدارية الجديدة باسم “فندق الماسة” حيث شهد حفلا فنيا بمناسبة الاحتفال بنصر السادس من أكتوبر ، والحقيقة أن المشاهد التي نقلت من الفندق ومحيطه ومداخله وغرفه وصالاته مبهرة جدا ، وهو فندق يتبع الدولة وبعض مؤسساتها ، وواضح أنه أنفق عليه مبالغ مالية ضخمة ، ربما لا تتناسب مع خطاب الرئيس المتكرر بأننا بلد فقير جدا ، وأنني لا أجد ما أقدمه لإصلاح رواتبكم الضعيفة “ما عنديش” ، وهذه المفارقة هي التي أحدثت نوعا من الغضب في أوساط كثيرة ، فالدولة الفقيرة يكون سلوكها مغايرا لما نشاهده الآن ، كما أن القيادة “الحكيمة” تقتضي أن تراعي مشاعر الناس ، خاصة عندما تكون هذه الخطوات الجديدة برعاية الدولة وبمال الدولة وبخطط الدولة ، وليس مجرد سلوك رجل أعمال حر في ماله وسلوكه ، فالشعب الذي يعاني الآن شظف العيش وبؤس الحياة ويختنق يوميا في مواصلاته وقوت يومه من الطبيعي أن يشعر بحزن شديد وهو يرى على بعد كليومترات قليلة منه هذا البذخ الشديد الذي تعيش فيه الدولة وأركانها .
العاصمة الإدارية الجديدة كمشروع حوله جدل كبير ومشهور ، وهناك رأي عام واسع يرى أنه إهدار لمقدرات الدولة التي تقدر بمئات المليارات من الجنيهات بدون ضرورة أو أولوية الآن ، والذي يمر بالقرب من موقع تلك العاصمة يرى على مد البصر أرضا فضاء وإنشاءات في بداياتها ، فالغرابة أن يكون أول إنجاز في المكان هو هذا القصر المنيف بكل أبهائه وبتشطيبات قال الخبراء أن مكوناتها مستوردة بالكامل من الخارج ، أي بالعملة الصعبة ، رغم أن القاهرة ملأى بالفنادق الفاخرة وبعضها يتبع الدولة ومؤسساتها ، ويمكن أن يقام الاحتفال بشكل فاخر أيضا في أي منها ، فما المعنى لإضافة مزيد من البذخ وكأنك تملك خزانة دولة نفطية ثرية مترعة بالدولارات ، والحقيقة أن هذا “السرف” في البناء والعمارة أصبح مؤشرا على طريقة تفكير السلطات الحالية ، وأولويات أعمالها ، وتصورها للاقتصاد المصري في المرحلة الجديدة ، فهناك قناعة واضحة لدى صاحب القرار أن المصريين يملكون مدخرات كبيرة ، وأن نزعة المصريين في الاستثمار تتجه نحو العقار ، وبالتالي ففكر الدولة يتجه إلى العقار من أجل سحب تلك المدخرات .
المشكلة هنا أن سلوك الفرد وأولوياته غير سلوك الدولة وأولوياتها ، وخطط المواطن للاستثمار تختلف عن خطط الدولة ، فالفرد مسئول عن نفسه وأسرته الصغيرة ، لكن الدولة مسئولة عن ملايين المواطنين ، عن البلد كله ، ومطلوب منها توفير فرص عمل بالملايين كل عام وتقليص البطالة فضلا عن سلسلة طويلة من متطلبات الحياة مثل التعليم والصحة والبنية الأساسية ، وكل ذلك يحتاج إلى “إنتاج” وإلى خطط تدعم الانتاج ، تحتاج إلى بناء مصانع وتشغيل مصانع وليس فنادق ، وتحتاج إلى تطوير الجهاز الإداري للدولة لتنشيط التصدير وتيسير دورة السوق المحلي أيضا ، وتحتاج إلى فكر سياسي وخيال مبدع من أجل تفعيل الاستثمار السياحي وهو أمر مرتبط بإصلاحات سياسية واقتصادية وتنموية من الواضح أن الحكومة الحالية غير قادرة على إنجازها .
باختصار ، هروب الدولة إلى سوق العقار هو عقم اقتصادي ، هو إهدار حقيقي لمقدرات الدولة ، وتمهيد الطريق نحو المزيد من البطالة والمزيد من الاختناق المالي ، فضلا عن المزيد من الفرز الطبقي ، لأن هذا الاستثمار العقاري الباذخ هو يخدم شريحة سكانية محدودة للغاية ، ربما لا تتجاوز خمسة ملايين مواطن في أفضل الأحوال ، أي حوالي خمسة في المائة من مجموع المواطنين ، كما أن الاستثمار العقاري بتلك الطريقة هو إعادة تدوير ثروة موجودة بالفعل ، ولا تولد ثروات جديدة ، ولا تدخل إلى شرايين الوطن أموالا جديدة أو ثروات جديدة تتيح للدولة وللمواطن تطوير المعيشة وتحسينها .
العاصمة الإدارية الجديدة حسب ما هو معلن سينفق فيها عدة مئات من المليارات من الجنيهات ، ولك أن تتخيل هذه الثروة الطائلة التي يتم تجميدها في طوب وأسمنت وسيراميك ، لو تم بها إنشاء آلاف المصانع ، وإعادة تشغيل ما هو معطل من المصانع الآن ، كم مليون مواطن سيجد فرصة عمل جديدة كريمة ، وكم مائة مليار جنيه سيتم ضخها في شرايين الاقتصاد كل عام من عائد التصنيع ، خاصة إذا كان بجودة تسمح بالتصدير ، ولك أن تتخيل هذه الثروة الضخمة لو أنه تم ضخها في إصلاح البنية الأساسية المهترئة في مدن الدلتا والصعيد ، في الطرق والمواصلات ومياه الشرب والكهرباء والغاز والتوسع في بناء المستشفيات والمدارس على أحدث مستوى بحيث يجد كل مواطن دواءه بكرامة وليس بالمشاهد البائسة التي يراها أي أحد يمر بالمستشفيات العامة ، وأن يجد كل مواطن كرسيا لولده أو ابنته في مدرسة بدلا من هذا التكدس الذي حول التعليم إلى مضيعة وقت وشغل “صورة” فقط ونشر للجهل .
مصر لديها مشكل اقتصادي لا شك فيه ، غير أن مشكلة مصر الجوهرية هي في “الفكر” الذي يخطط والذي يقود والذي يصنع الأولويات .