كيف حصنت أميركا الدولار؟

كتب ساتياجيت داس :

رغم أن إنتاج الولايات المتحدة يمثل 20 في المائة من الناتج الاقتصادي العالمي، فإن أكثر من نصف احتياطات العالم وتجارته تجري بالدولار الأميركي. وذلك نتيجة لاتفاقية «بريتون وودز» عام 1944 التي ظهر تأثيرها بعد أن انتهت العلاقة بين الدولار والذهب بصدمة نيكسون عام 1971، ما سمح لأميركا بالتحكم في عرض العملة.
إن الدور المحوري للعملة وما تتمتع به من مزايا كبيرة، يسمح لأميركا بتمويل تجارتها بسهولة وسد أي عجز قد يطرأ على موازنتها. ولذلك فإن أميركا في مأمن من أزمات ميزان المدفوعات ببساطة؛ لأنها تستورد وتخدم قروضها بعملتها الخاصة. ويمكن للخدمات النقدية الأميركية مثل «التيسير الكمي» التأثير على قيمة الدولار لينال قيمة تنافسية. لكن القوة الحقيقية للدولار تكمن في علاقته مع برامج العقوبات. فالتشريعات مثل «قانون الصلاحيات الاقتصادية الدولية الطارئة» و«قانون التجارة مع العدو» و«قانون الوطنية» تسمح لواشنطن بتحصين تدفق المدفوعات، ومن شأن قوانين مثل «تحصين الانتخابات بالتهديد برسم خطوط حمراء» و«الدفاع عن الأمن الأميركي من اعتداء الكرملين» أن يعزز من عمليات الدفاع والتحصين.
وبعدما أصبحت قادرة على الدخول إلى البيانات من خلال شركة «سويفت»، التي تعد أكبر شركة اتصالات مصرفية ومالية تعمل من خلال خدمات الرسائل الدولية، باتت أميركا قادرة على السيطرة على النشاطات الاقتصادية العالمية بصورة غير مسبوقة.
تستهدف العقوبات إما أشخاصا وإما كيانات وإما منظمات، وإما نظاما وإما دولا بأكملها. وتمنع العقوبات الثانوية المؤسسات الأجنبية والمعاهد المالية والأشخاص من التعامل التجاري مع الجهات المحظورة. وأي تدفق نقدي بالدولار الأميركي من خلال بنك أجنبي أو من خلال نظام المدفوعات الأميركي يعطي الصلة الضرورية التي تحتاجها الولايات المتحدة لمحاكمة الجهة المدانة أو التي تعمل ضد المصالح الأميركية. ومن شأن ذلك أن يعطي الولايات المتحدة نفوذا خارج حدودها الإقليمية للتحكم في غير الأميركيين الذين يتعاملون تجاريا أو يمولون جهة محظورة. ومجرد التهديد بالمقاضاة يمكن أن يحدث هزة مالية وتجارية ويزعزع الاستقرار في أسواق المال، ما يلحق الضرر بنشاطات غير الأميركيين.
الخطر هنا حقيقي، فقد دفع بنك «بي إن بي باريبا» 9 مليارات دولار أميركي غرامات، وأوقف عن العمل في «مقاصة الدولار» لمدة عام كامل لمخالفته للعقوبات المفروضة على إيران وكوبا والسودان. كذلك تعرضت بنوك «إتش إس بي سي هولدنغ»، و«ستاندارد تشارترد» و«كمويرزبانك إي جي» و«كليرستريم بانكنغ» لغرامات باهظة لارتكابها الخروقات نفسها.
وصعبت العقوبات الثانوية عمل شركة «يزنايتد كو راسال» الروسية وشلت قدرتها على تمويل قروض الدولار الأميركي بعدما أجبرت البنوك التجارية العالمية على عدم التعامل معها. ونتيجة لذلك، تراجعت أسهمها بدرجة كبيرة رغم أن الشركة لا تبيع سوى 14 في المائة من إنتاجها في الولايات المتحدة ولا تتعامل مع البنوك الأميركية، ورغم أنها مدرجة فقط على أسواق المال في موسكو وهونغ كونغ. وعلى المنوال نفسه، فقد تعرضت شركة الإلكترونيات الصينية «زي تي إي» لضربة قاسمة عندما عجزت عن شراء المكونات الرئيسية من الموردين بسبب العقوبات نتيجة تعاملاتها التجارية مع كوريا الشمالية وإيران. لذلك فإن أوروبا في حاجة إلى نظام عملة احتياطية بديلة. لكن المشكلة هي أن إحلال عملة مكان الدولار بسرعة أمر صعب.
والسبب… أولا، لأن اليورو والدولار واليوان ليست خيارات واقعية؛ لأن مستقبل واستقرار اليورو على المدى البعيد غير مضمون، ولا يزال الاقتصاد الياباني في حالة سبات منذ عقدين، ويفتقد الاقتصادان الروسي والصيني للشفافية، واليوان الصيني غير قابل للتحويل في جميع الأحوال. ثانيا، من الصعب بمكان تغيير البنية التحتية في الأماكن التي تعتمد كليا على الدولار كعملة مرجعية، ولا يمكن إيجاد أسواق مال سائلة وعميقة بين ليلة وضحاها. ثالثا، تريد غالبية الدول المرشحة النأي بنفسها عن لعب دور الدولة صاحبة احتياطي رأس المال العالمي، وذلك بسبب التوتر القائم بين السياسيات الاقتصادية المحلية والعالمية.
يعني ذلك أن بإمكان الولايات المتحدة مواصلة استخدام الدولار لتعزيز أغراضها التجارية والمالية والجيوسياسية خارج نطاق القوانين والمؤسسات الدولية ومن دون الحاجة إلى فوضى العمليات العسكرية. وقد تجلى هذا الوضع في كلمات جون كونالي، وزير المالية في عهد ريتشارد نيكسون، عندما قال عام 1971: «الدولار عملتنا، لكنه مشكلتكم».