عصام شعبان يكتب : قضية تيران وصنافير تدقّ باب التغيير

مارست الحكومة المصرية كل ما أوتيت من قوة لإثبات صحة موقفها في التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، بموجب اتفاقيةٍ لترسيم الحدود بين البلدين، إلا أن كل المحاولات باءت بالفشل، سواء التي تعلقت بالأساليب القانونية ومواجهة معارضي الاتفاقية في المحاكم، أو في الشوارع حين تظاهروا، وصولاً إلى محاولات غسيل الأدمغة وتزييف الوعي والتاريخ التي تولت وسائل الاعلام مسؤوليتها، عبر تعميم خطاب الحكومة بسعودية الجزيرتين، انتصر المحتجون على الاتفاقية في ساحات القضاء، وكسبوا تعاطف قطاعاتٍ كبيرة من الشعب. وفي سابقةٍ لافتةٍ في اتساعها ودلالتها جمع المصريون 4,7 ملايين جنيه لتسديد كفالة الشباب المحبوس على ذمة قضية التظاهر ضد الاتفاقية.
عكست قضية الجزيرتين أزمة النظام المصري، فهو يعتمد على الدعاية، مستخدما وسائل الإعلام التي يمتلكها رجاله، وهو نظام تسلطي يقمع معارضيه بشتى طرق العقاب. وثالثا إن شرعيته التي بناها عبر تعميم خطابٍ ينطلق من وطنيته وتخوين الآخرين، خطابٍ كاذب وملفق، وما هو إلا أداة لإزاحة غيره من المجال العام. ورابعاً، بدا أن أزمة النظام الاقتصادية دفعه إلى الاقتراض الدائم وتلقي المنح وقبول اشتراطات المانحين والمقرضين، حتى لو كانت بيع الأراضي والأصول. وكما عكست قضية تيران وصنافير أزمة النظام، فأنها أعلنت بدايةً جديدة للحراك السياسي، فعادت الحركة الاحتجاجية على الرغم من الحصار الأمني، وعقوبات السجن، ومحاولات تفكيك كل الكتل السياسية.
وبدأت بموجب هذا الحراك بوادر عودة العمل الجبهوي، وعادت الوجوه الشبابية إلى الظهور، كما لعبت منظمات من المجتمع المدني، وبعض النخب السياسية دورا مهماً، وحققت معركة الدفاع عن مصرية الجزرتين سيادة حالةٍ عامة بين المواطنين المصريين، أحيت مفاهيم الوطنية والدفاع عن الأرض. وربما تشابهت تلك الحالة، مع الفارق الزمني وأطراف الصراع، مع الاعتراضات التي طاولت اتفاقية كامب ديفيد، وليس من الخطأ استعارة كلمة المناضل الشهيد زكي مراد لتوصيف المشهد حينها في اجتماع جبهوي قائلاً “لقد تحدّدت اخندقان”. في إشارة إلى تبلور حركة معارضة لاتفاقية كامب ديفيد، تجمع كل الأطياف والتيارات السياسية والفكرية التي تخندقت ضد اتفاقية الصلح مع إسرائيل، بينما وقف في الجانب الآخر السلطة ورجالها مؤيدين أنور السادات في توقيع الاتفاقية. ومع الأخذ في الاعتبار الفارق، إلا أن إسرائيل حاضرة في مشهد الجزيرتين أيضاً، بحكم أن خروجهما من السيادة المصرية يوسع المجال الحيوي لإسرائيل، ويفقد مصر ميزةً نوعيةً، هي توفر نقاط ارتكاز في البحر الأحمر. فقد جعلت الجزيرتان القضية الوطنية رأس حربة في تجمع معارضي النظام، وتكتلهم لإلغاء الاتفاقية، بل يمكن القول إن القضية تجاوزت حتى الخطوط الفاصلة بين مؤيدي النظام ومعارضيه، فخلخلت هذا التقسيم وجعلت قطاعات من الإصلاحيين المساندين للنظام يتخذون موقفاً معارضاً، ذلك لأن القضايا الوطنية والقومية كانت حاضرةً بقوة في الحراك السابق على ثورة يناير.
يقف النظام المصري في مأزق اليوم، فهو يتخندق، هو ومؤيدوه، لإثبات ملكية دولة أخرى جزءاً من أرضه، بينما تقف، في الجانب الآخر، معارضةٌ من كتل شبابية ومنظمات مجتمع مدني ومحامين ونخب سياسية مدافعة عن الأرض، على الرغم من أن النظام يهاجم كل هؤلاء، نافياً عنهم صفة الوطنية، ويتهمهم بالخيانة، بينما يفرط هو في جزء من الوطن، فيتبدّى للشعب أن معارضي النظام وطنيون، ورافضون سرقة الأرض، بينما النظام مفرّط. إذن، أصبح هناك خندقان، الوطنية ورفض الهيمنة ضمن سياقات دولية أو إقليمية، وخندق آخر يستبيح التفريط في الأرض وبيعها، ويمارس سياساتٍ تناقض ما روّج عن نفسه أنه حامي استقلال القرار الوطني. ولا يقتصر المشهد على ذلك، بل يتجاوزه إلى التأثير على بنية النظام، فالتنازل عن جزءٍ من أرض الوطن سيحدثُ شروخاً في جدران النظام، ولعل هناك اختلافات حول الاتفاقية من منطلق أن التنازل عن الأرض أمر حساس للمصريين، وهذا ما جعل النظام يتوقع حدوث احتجاجاتٍ على الاتفاقية، أو تقاضياً مستقبلا، الأمر الذي جعل رئيس الحكومة شريف إسماعيل يتصدّر المشهد، موقعا الاتفاقية مع الجانب السعودي.
لا يمكن إجمال نتائج الحراك المصاحب لقضية جزيرتي تيران وصنافير في ال قضائياً، ولا مبالغة في القول إن هذه القضية بداية حراك احتجاجي جديد سيوثر على مستقبل العملية السياسية، ويحييها مرة أخرى. ومن جانب آخر، سيساهم في زيادة تآكل شرعية النظام. وبغض النظر عن محاولات إغراق قضية الجزيرتين في المتاهات القانونية والدستورية، فإننا أمام رأي عام يرفض الخطاب الرسمي للنظام، المستند إلى تقارير لأجهزة الدولة، فالمستيقظون على قرارت رفع الأسعار، أو بيع جزيرتين، لن يصدّقوا الخطاب العاطفي المتهافت عن  التنمية الاقتصادية المنتظرة، أو حفظ أمن الوطن وسلامة أرضه، لن يتأثروا كثيراً بإقالة حكومة أو بوعودٍ عن تحسن الوضع الاقتصادي، سيفقد الكلام عن الوطنية أثره، فالوطنية مهدرة بسيف اتفاقية تنازل عن أراض مصرية للغير.
بعد صدور حكمٍ برفض طعن الحكومة على حكمٍ سابق بمصرية الجزيرتين، يمكن وضع سيناريوهات لمستقبلهما، أولها أن يعلن النظام احترامه أحكام القضاء المستندة إلى أدلة ووثائق تثبت مصرية الجزيرتين، وهو سيناريو بعيد، فلم تصدر الحكومة أو مؤسسة الرئاسة بياناً بشان الحكم يدل على ذلك. السيناريو الثاني، الاستمرار في العناد والتمسّك بالموقف السابق على الحكم، ومناقشة الاتفاقية في البرلمان بناءً على قرار سابق بتحويلها إليه قبل صدور الحكم القاضي بمصرية الجزيرتين، وخصوصاً أن الأغلبية في البرلمان تؤيد النظام، وأعضاؤه طيّعون في يد أجهزة الدولة. السيناريو الثالث هو البحث عن مخرج مرضٍ للسعودية، ويرفع بعض الحرج عن النظام المصري، عبر استغلال السعودية أراضي الجزيرتين، وتملك أراضٍ وإقامة مشروعات استثمارية فيها. وعلى الرغم من تعدّد السيناريوهات المطروحة لإنهاء ملف القضية، فان كل التوقعات مرهونة بتطورات الوضع السياسي. وغلقها بأي حل لا يخفي حقيقة أن قضية تيران وصنافير فتحت باباً لعودة الرأي العام، وزيادة ثقة صفوف الثورة في إمكاناتها، وأنها بداية لحراك سياسي مناهض سياسات النظام. إنها مرحلة عودة الروح التي غيبت منذ فترة.

الحقيقة-الكاملة1