شرعية القصر وشرعية القبر

الآن فقط، يعترفون بالرئيس محمد مرسي رمزًا للثورة، وعنوانًا للنضال من أجلها.

قالها الشهيد الحي مبكرًا للغاية، منذ اللحظة الأولى التي هجم فيها القراصنة على الثورة، متحدثًا، في خطابه الأخير قبل الذهاب إلى السجن، عن الارتباط العضوي والمنطقي بين الثورة والشرعية.

“اوعوا الثورة تتسرق منكم، بأي حجة، والحجج كتير”، كانت تلك رسالة الرئيس محمد مرسي الأخيرة، قبل أن يختطفوه، ويقتادوه إلى غيابة الأسر، تحدّث فيها عن الثورة، قبل أن يعرّج على شرعيته، رابطا بينها وبين ثورة يناير بالقول “ثورة 25 يناير وتحقيق أهدافها كاملة، والحفاظ على الشرعية، ثمن الحفاظ عليها حياتي”.

تلك كانت المعادلة السليمة لتأسيس أي مشروع يقاوم الانقلاب، بجدّية، وليس من باب تعبئة الفراغ بالأوهام، غير أن أحدًا لم يعبأ بنداء الأسير، بل تطاوسوا وتطاولوا، واتهموه بأنه لا يرى أبعد من كرسي الحكم.

الآن، اكتشفوا صحة المعادلة، وتذكروا اسم الرئيس بعد استشهاده، وقفزوا سريعًا في مركب الشرعية، بعد موت مالكها، كلّ يدّعي وصلًا بها وبه.

من أي مادةٍ مطّاطةٍ صنعت ضمائر هؤلاء الذين رفضوا شرعية الرئيس مرسي، حيًا، ثم راحوا يتمسّحون فيها، ويعترفون بها، بل ويعتبرونها سلاحًا ثوريًا، بعد استشهاده؟.

كانوا يتغامزون ويهزّون الأكتاف، برقاعة، كلما ذكرت أمامهم شرعية الرئيس مرسي، وهو على قيد الحياة، ويتسابق بعضهم في استعراض مهاراتهم في السخرية، فيما يرتدي آخرون مسوح الحكمة الثورية، وينهالون وعظًا في أن كلمة الشرعية عقبةٌ كأداء أمام مشاريع القضاء على الانقلاب، كونها طاردةً لأسراب البلابل الواقفة فوق أشجار حدائق الاصطفاف، وقطعان الوحوش التي جاءت ترعى تحتها.

بعضهم كان وجهه يمتقع كلما ذكرت الدكتور مرسي مسبوقًا بكلمة “الرئيس”، ومن كان يملك قدرًا من الخجل منهم، يسميه “الدكتور”، فيما كان جلهم يمعن في ترديد عبارة “مرسي مش راجع”، وكأنه يتلو تعويذة صنعها ساحر أو دجّال، لطرد الأرواح الشريرة.

أما وقد رحل مرسي، فقد صار رئيسًا، وعادت الشرعية المنكرة إلى الحياة، بعد أن دخل صاحبها القبر ووري الثرى، وجاءت الوجوه والأصوات ذاتها، التي نشطت في تسويق اصطفافٍ يشترط إلغاء وجود الرئيس مرسي، وقتل شرعيته، رئيسًا في القصر، جاءت بعد استشهاده تستثمر في شرعية مرسي، شهيدًا في القبر.

هي الوجوه ذاتها التي قلت عنها مبكرًا إنها مفلسة، إلا من محاولات فرض البراغماتية السياسية، التكتيكية، مذهبًا ثوريًا، بديلًا لمبدئية التعاطي مع ما جرى باعتباره انقلابًا على ثورة، وعلى شرعيةٍ ناتجةٍ عن هذه الثورة، وباسم هذه البراغماتية لم يدّخروا جهدًا  في الفصل بين الثورة والشرعية، بحجة ضم أطيافٍ جديدةٍ لمعارضة نظام عبد الفتاح السيسي، في لعبةٍ سياسية، سوقيةٍ تمامًا، أسميتها في ذلك الوقت “الإسقاط الثاني للرئيس مرسي”.

ها هو الرئيس، وقد تركنا في موتنا العميق وأكاذيبنا الأعمق، وذهب شهيدًا وشاهدًا على ثورة قتلها أبناؤها، كما شاركوا في قتله، حيًا، ويواصلون قتله، بوصفه معنىً ورمزًا، بعد رحيله، حين يصرّون على تلويك رواية إهماله طبيًا، سجينًا لا رئيسًا، افتئاتًا على واقعٍ ينطق بأنه شهيد جريمة سياسية منظمة، تقاسمتها السلطة والمعارضة معًا، فقد قتله القاضي المزور، كما قتله العسكري الخائن، والسياسي الأجير، والثوري المزيف، وإعلام المهنية الملوثة، وسفلة النضال الزائف.