سيف الدين عبد الفتاح يكتب :روح جديدة ورياح ثورة

تطلّ علينا في مصر ذكرى ثورة 25 يناير ورياح ثورة متجدّدة، وإن كان بعضهم قد يشكّك في هذا الشأن بأن استئناف تلك الثورة وإحياء كل ما يتعلق بها أمر بعيد المنال، تختلط في ذلك الإحباطات بالأشواق بالرغبات بواقع الأمر الذي يسوء ويتدهور، ولكن هذه الثورة حينما نستلهم روحها، وحينما نشم ريحها، وحينما تتفاعل في النفوس أشواقها، فإنها تشكل طاقةً متجدّدةَ، نظن أن بعض الحراك الذي يتعلق بجهود اصطفافٍ طال انتظاره إنما تشكل مؤشراتٍ على الأرض لرياح ثورةٍ بدأت تهبّ ولو من بعيد، باستلهام وقائع ثورةٍ، ربما لم تنضج الظروف بالشكل الكافي لتحدث شرارة لها تقدح زنادها، وما زلنا في انتظارها.
هذا التجمع لهؤلاء الذين وقعوا على ميثاق الشرف الوطني، والذي جعل من شعاره وندائه الحركي “أوقفوا خطاب الكراهية”، بما يعبر عن حالةٍ من اتفاق الحد الأدنى على أمورٍ سلبية، تشكل، في واقع الأمر، هواجس خطيرة وأمراضاً جماعية مزمنة، أدت إلى حالةٍ من الاستقطاب وتآكل الثقة، وحال من الحساسية المفرطة التي أدت إلى تعويق مسيرة الاتفاق والتوافق والاصطفاف. كان هذا الميثاق الذي شكل الحد الأدنى على أمر سلبيٍّ يطلب من الجميع إيقاف خطاب الكراهية، وهو أمر ليس هيناً، وليس بالانجاز القليل، إلا أن الانطلاق إلى خطوةٍ أخرى إيجابية كان من الأهمية أن ينطلق قطاره، ليقدّم سنداً وأساساً إيجابياً لعملٍ مشترك، هذه المرة تحت شعار ونداء حركي “ثورة يناير تجمعنا، معنا نقدر” كان ذلك تطويراً مهماً، وجد تأسيساً وميثاقاً لعمل تشاركي إيجابي. ولذلك، قلنا إن روح الثورة مازالت تخفق، وأن رياح الثورة مازالت تهب، وأن هذا إنما لابد له أن يستعيد ليس فقط ثورة يناير. ولكن، عليه أن يتدبّر أمره في تأسيس دولته وبنائها، إنها الحركة الإيجابية حينما تتراكم، فتحقق وعياً وتؤكد موقفاً، وترتب عملاً وممارسة.
من أجل ذلك، كانت المقاومة للانقلاب العسكري وسياساته الفاجرة الظالمة أمراً غاية في “نال الانقلاب من أهل الثورة جميعاً وكأنه كان حركة عقابٍ على ثورة شعبٍ، ومواجهة بين ثورة حقيقية وأخرى مضادّة” الأهمية، تعبر عن حقيقة الطاقة الثورية، حينما تتفاعل مع أهل الثورة، فوجب عليها أن تستدعي روح الثورة وشعارها الذي يواجه بيادات العسكر وصناديق الذخيرة وانقلابات اعتادوها واحترفوها. بدا ذلك منذ انقلاب الثالث من يوليو الذي، مع استمراره وتحوله إلى نظام، يعبر عن دولة بوليسية وحالة فاشية، وصلت إلى أقصى مداها، استهداف العرض والأرض والحرث والنسل والشباب والمرأة، وتوج ذلك كله بأفعال خسيسة، من اختطاف قسري وتصفية جسدية، وتعذيب حتى الموت خارج إطار القانون، واعتقالات ومطارداتٍ صارت بعشرات الآلاف، طاولت الجميع من كل اتجاه، وعلى تنوع الايديولوجيات والقوى السياسية. نال الانقلاب من أهل الثورة جميعاً، وكأنه كان حركة عقاب على ثورة شعبٍ، ومواجهة بين ثورة حقيقية وأخرى مضادّة، تحاول أن تجهض هذه الثورة، وتطمس شعاراتها وتطفئ جذوتها.
نقول لكل هؤلاء إن الأمر على غير هذا النحو، حتى لو أنهم نجحوا نسبياً في فرض حالةٍ من التفزيع والترويع، وتكريس وضع من إفقارٍ وتجويع، ومحاولاتهم تدجين هذا الشعب وتطويعه، حتى يسلم قياده كعقلية قطيع. نقول، وبأعلى صوت، إن هذا لن يتحقق، ذلك أن الشعب الذي كانت له جولة تمثلت في ثورة 25 يناير لا يمكنه أن يفرّط في ثمرة هذه الثورة، ولا في زخمها. تخبو الأمور حيناً، وتتوارى أحياناً، ولكن روح الثورة تظل فاعلة، إلا أن هذه الفاعلية، هذه المرة، مرهونة بتعلم أن إدارة ثورةٍ في مواجهة هذا النظام الفاشي لا يمكن أن تكون كافيةً. ومن ثم، فإن مواجهة تلك الثورة المضادة، باستناداتها في الدولة العميقة وتحالفاتها الوضيعة والغميقة ومصالحها الدنيئة والوضيعة، إنما تشكل مواجهة حقيقية تفرض موجباتٍ في التعامل مع المضادّين للثورة، ولكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، بل وجب على هذه الثورة الحقيقية أن تدير معركة أخرى، تتعلق بإدارة ثورة توقعاتٍ عند عموم الشعب والجماهير. والتعرّف على خريطة مطالب الناس، بمعاشهم وضروراتهم، والقدرة على إدارة تحقيق هذه المطالب، باعتبارها أولوية قصوى، إنما يشكل قاعدةً من الرضا الشعبي، يشكل، في حقيقة أمره، حاضنةً للثورة الحقيقية.
يعني ذلك كله، ضمن ما يعني، أننا في حاجةٍ إلى تصور واضح ومكين ورصين، لإدارة الحركة مع الثورات الثلاث، الثورة الحقيقية، في تراكم فعلها وفاعليتها، ومواجهة الثورة المضادة وإدارة المقاومة في مواجهتها، والتصوّرات التي تقتلع جذورها الخبيثة في أرض الدولة العميقة، إدارة تعبر عن حنكةٍ شديدةٍ وقدرةٍ فريدةٍ لمواجهة هذه الثورة المضادة، وعدم تركها
ورياح الثورة مازالت تهب” للقيام بكل ما من شأنه يجعلها تلتف، مرة بعد مرة، وتحاصر .. بل وتجهض الثورة الحقيقية، وإدارة ثورة التوقعات أيضاً من الأمور المهمة في هذا المقام، ثورة توقعات الناس تكمن، في حقيقة الأمر، في أشواق هذا الشعب، ضمن هذا الشعار العبقري الذي يمثل دستور الثورة في تلك الرباعية الشهيرة “عيش كريم، وحرية أساسية، وكرامة إنسانية، وعدالة اجتماعية”.
هذا الشعار العبقري الذي لا يزال صالحاً ليعبر عن ثورة توقعات الناس ليس بالأمر الكبير، ولكنه يعبر عن مطالب الشعب الأساسية، ورغبته في أن تتلمس الثورة مسالك للعيش الكريم. ولكن هذا العيش لابد وأن يتمثل في كيانٍ يتمتع بالحرية. هذا العيش المغموس بالحرية غير ذلك العيش المنغمس في ذل العبودية، لا يتحقق ذلك إلا بتأسيس معنىً للكرامة الإنسانية كمتطلب أساسي للحالة الإنسانية، حتى نواجه ذلك الأمر الذي يتعلق بالحاكم المستبد الذي قد يتصوّر نفسه إلهاً أو المواطن المستعبد الذي جعلوا مواطنيته طريقاً لاستعباده، ولكن الأمر التأسيسي هو ما يتعلق بكونه إنساناً. يقول أحمد مطر” في بلادنا مواطن أو سلطان، ليس لدينا إنسان”. ويكتمل المربع في أركانه، حينما تتوّج مسائل العيش الكريم والإنسان الحر الذي يتأسس كيانه على قاعدةٍ من الحرية والكرامة الإنسانية، فلا يتحقق ذلك إلا في مظلةٍ من العدالة، تأتي العدالة الاجتماعية في مقدمتها، تحقق كل ما يتعلق بتوزيع عادل للموارد والفرص، بما يحقق أقصى تكافؤ واعتماد أفضل كفاءة.
لا نزال نؤكد على أن هذا الشعار بتحويله إلى استراتيجيات وبرامج وخطط عمل هو الذي يمكّننا من إدارة الفعل الاستراتيجي للتعامل مع الثورات الثلاث: الثورة الحقيقية الدافعة إلى الاستقلال والحرية، ومجابهة الثورة المضادة القائمة على ساقين، الاستبداد والفساد، وتكسير كل ما يتعلق بالمحاضن التي تتعلق بهما، وإدارة ثورة التوقعات التي تحقق العيش الكريم وكرامة الإنسان والعدالة الاجتماعية بين أبناء الوطن. لا بمنطق الأسياد والعبيد، ولكن بمنطق العدالة التي تظلل الجميع في توازنٍ بين الحقوق والواجبات. ليست هذه المقالة إلا فاتحة للحديث عن روح يناير ورياح ثورةٍ تهبّ علينا، آن لنا أن نستمسك بها، ونعمل لإنجاز أهدافها، كرامة مواطن، ومكانة وطن.