زلزال خاشقجي يرج المنطقة

يمكن القول إن المنطقة العربية والشرق أوسطية تمر حاليا، ومنذ جريمة مقتل جمال خاشقجي، بزلزال سياسي لم تتعرض له منذ ثورات الربيع العربي مطلع العام 2011. فالجريمة التي وقعت كبيرة، ضحيتها شخصية كبيرة، والدولة التي  نفذتها كبيرة، والتي وقعت على أرضها كبيرة، والطريقة التي نفذت بها غير معهودة، والطريقة والسرعة التي كُشفت بها كانت غير مسبوقة، ولنتذكر جريمة مزلزلة أخرى حدثت في المنطقة منتصف شباط/ فبراير 2005 باغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، عبر تفخيخ موكبه، حيث قتل معه 21 شخصا آخرين، ولا تزال القضية متداولة في محكمة جنائية دولية خاصة حتى اليوم، لم تثبّت التهمة بحق أي متهم، رغم التمليحات المتكررة باتهام النظام السوري وحزب الله اللبناني، بينما لم يمر عشرون يوما فقط على جريمة خاشقجي حتى اعترفت الدولة المنفذة بجريمتها، وإن كانت لا تزال تسعى لتعليقها في رقبة موظفين صغار لتبرئة المتهم الحقيقي، وهو ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.

وقعت الواقعة، واعترفت السلطة المارقة، وما كان لها أن تعترف – وهي التي ظلت تنكر على مدى عشرين يوما – إلا بعد تضييق الخناق حولها بعشرات الصور والفيديوات والوثائق التي تثبت تورط رجالها مباشرة، وهي الأدلة التي اطلعت عليها العديد من العواصم الكبرى، ووثقت بصحتها، فجاءت بياناتها المتشددة ضد السعودية ترجمة لقناعاتها بمسؤولية النظام السعودي عن الجريمة.

نظرت المملكة حولها في هذه الأزمة فلم تجد من يمد لها يد العون من صديقاتها وحليفاتها المقربات، حتى من حلف الحصار لقطر الذي أسسته الرياض، فقد ظل هذا الحلف متفرجا لعدة أيام قبل أن تطلب منه الرياض رسميا التحرك لدعمها، وعلى الأرجح، فإنها لوحت بتهديدات وعقوبات لعواصم الحصار، فخرجت بياناتها في ليلة واحدة، وكأنها كتبت في الرياض ووزعت عليهم في توقيت واحد، لكنها ظلت بيانات باهتة، لا تنقذ غريقا ولا تروي غليلا، ولكنها ققط مجرد “جبر خواطر”. كما أن السعودية التي لطالما أغدقت بأموالها على منظمات وأحزاب وجمعيات عبر العالمين العربي والإسلامي؛ لم تجد من ينصرها على المستوى الشعبي والمدني سوى بعض الأصوات الهزيلة، مثل حزب القوات اللبنانية الماروني المتعصبب بقيادة سمير جعجع، وبعض الجمعيات المغمورة في مصر.. إلخ.

المراوغات السعودية للتملص من الجريمة، ومحاولة إلصاقها بأطراف أخرى مثل قطر أو الإخوان أو حتى تركيا نفسها، ثم الاعتراف التالي بوقوع الجريمة نتيجة شجار مع بعض الأشخاص الآخرين في مقر القنصلية، لم يقنع أحدا في العالم، حتى ترامب الذي يرجح أنه من رتب هذه الصيغة وأرسل بها وزير خارجيته، والذي أعلن ثقته في الرواية السعودية، عاد ليشكك فيها تحت قصف مركز من الإعلام الأمريكي وأعضاء الكونجرس ومنظمات المجتمع المدني الأمريكية والدولية، وخرج البرلمان الأوروبي ليدين الرواية وليتهم السعودية بخرق اتفاقية فيينا حول حصانة المقرات الدبلوماسية، وتعاضدت الدول الأوروبية الكبرى (بريطانيا- فرنسا- ألمانيا- هولندا) لفرص حصار سياسي على السعودية، عبر وقف أي زيارات سياسية إليها، وهو للمفارقة يشبه الحصار الرباعي الذي فرضته السعودية على قطر بمشاركة الإمارات والبحرين ونظام السيسي. والرأي العام الدولي بشكل عام لا يزال في عنفوان رفضه للجريمة، ومطالبته بمحاسبة الجاني الحقيقي وعدم السماح بإفلاته من العقاب، وهذا الرأي العام الدولي الذي يقوده الإعلام باقتدار أصبح يمثل قوة لا يستهان بها، بل إنه يجبر ترامب على تغيير مواقفه بين الحين والآخر، رغم حرصه الشديد على عدم تبديد صفقة المئة مليار دولار مع السعودية لتوريد سلاح.

لم تعد السعودية إذن بعد جريمة قتل خاشقجي كما كانت من قبل.. فقدت غرورها، وتعاليها، وتطاولها، وانكسرت أمام الإدارة التركية للأزمة، وأمام القصف الإعلامي المركز الذي لم تفلح ملياراتها وأدواتها الإعلامية وجيوشها الالكترونية في مواجهته. وهذا الانكسار السعودي (الذي تمثل في اعتراف رسمي بالجريمة مع تعليقها في رقبة صغار) هو خطوة على طريق تنازلات أخرى، ستضطر إليها السعودية خاصة مع تشوش وارتباك روايتها التي أثبتت وقوع الجريمة في سفارتها، لكنها لم تقدم معلومات عن مكان الجثة حتى الآن، وهو ما لن يقبله الأتراك الذين خرجوا على مستويات رسمية وحزبية ومدنية رافضين للبيان السعودي، ومجددين تعهدهم بوصول تحقيقاتهم للجناة الحقيقيين والمحرضين أيضا. وبالتالي، نتوقع تعاظم الضغوط التركية والدولية على السعودية حتى تفرج عما لديها من معلومات عن جثة خاشقجي، وهنا ستكون السعودية قد خلعت آخر قطعة من ملابسها.

الاعتراف الرسمي بوقوع الجريمة بعد طول إنكار سيحدث صدمة كبرى للرأي العام السعودي؛ الذي صدق الكثير من قطاعاته الروايات السعودية الكاذبة من قبل، وسيدفع الرأي العام لإعادة التفكير في كثير مما كان يوصف بالثوابت والمسلمات من قبل، خاصة في المجال السياسي، والأداء الرسمي، وعلى الأرجح سيمر السعوديون بما يشبه زلزال هزيمة 1967 في مصر، وقد ينتج ذلك وعيا جديدا بين أبناء نجد والحجاز؛ يدفعهم للمطالبة بحقوقهم المغتصبة في حكم بلادهم، والتقاسم العادل لثرواتها. ولعل ما حدث وسيحدث سيكون بداية اشتعال روح التغيير في المنطقة، وصولا إلى ملكية دستورية على الأقل.

المشاريع الكبرى التي دشنها ولي العهد، مثل رؤية 2030، وخصخصة جزء من شركة أرامكو، ومشروع نيوم.. كلها الآن في مهب الريح، وقد شاهد العالم كله الانسحابات المتتالية لكبار قادة العالم السياسيين والاقتصاديين من مؤتمر الاستثمار السعودي الذي سينطلق الثلاثاء المقبل “بمن حضر”، وهو الذي كان مخططا له أن يكون النسخة العربية والشرق أوسطية لمنتدى دافوس العالمي.

ولأن السعودية كانت أحد اللاعبين الأساسيين في المنطقة، فإن دورها الآن أصبح مهددا بالتقلص إلى حد كبير، سواء في الأزمة السورية التي كانت تحتفظ ببعض مفاتيحها، أو الحرب في اليمن التي يرجح أن تبحث عن تسوية سريعة للانسحاب منها، أو المواجهة مع إيران التي كانت تخطط لإشعالها عبر تأسيس حلف عسكري (“ناتو” عربي؛ أصبح الآن محل شكوك)، أو على مستوى التدخل في شؤون دول أخرى، ودعم انقلابات عسكرية وسياسية فيها. وبشكل عام، فإن الأحلاف والتكتلات السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية التي شكلتها السعودية وأنفقت عليها أصبحت في مرحلة إعادة التقييم، كما أن حصارها لقطر تلقى ضربة قوية، حيث نجحت قطر عبر مدفعيتها الثقيلة “الجزيرة” في إيلام السعودية ومحاصرتها، والمشاركة في الجهود التي أجبرتها على الركوع. وربما تجد الرياض نفسها مضطرة لتسوية خلافها مع قطر مقابل وقف القصف المركز من الجزيرة، رغم استمرار الشحن الإماراتي ضد قطر. ولا يمكن أن ننسى في هذا الإطار تداعيات الزلزال السعودي على القضية الفلسطينية التي قد تشهد تسارعا لتنفيذ بعض التسويات المجحفة (صفقة القرن)، أو قد تجد انفراجه بغياب التأثير السعودي السلبي بشأنها.

يدرك محمد بن سلمان كل هذه التداعيات، والتي قد يكون هو شخصيا أحد ضحاياها، ولذلك فلا نستبعد إقدامه على مغامرات يائسة لحرف أنظار العالم عن فضيحته، كأن يدعم ماليا وعسكريا حربا إسرائيلية شاملة ضد غزة، أو غزوا حفتريا للعاصمة الليبية طرابلس، أو حتى ارتكاب عملية إرهابية كبرى تأخذ الأضواء بعيدا عنه، لكن حظه العاثر أن عيون العالم كله مفتوحة الآن عليه، وعلى أجهزته.

التغييرات الكبرى في المنطقة مرتبطة بمدى التغيير الذي ستشهده السعودية، والتي قد تدفعها للانكفاء على ذاتها، ولملمة جراحها، والحفاظ على وجودها المهدد حاليا بالتقسيم وهو ما لا نرضاه لها، وإن كنا نريد لها الانتقال إلى الحكم المدني الرشيد الذي يعتمد على إرادة الشعب لا إرادة أسرة واحدة منه، والذي يعطي كل ذي حق حقه.