رابعة: عن “إنسان ما قبل الفضّ”

وائل قنديل :

هاجر “إنسان ما قبل الفضّ” من مصر، تاركاً المجال لكائناتٍ بشرية، كتبت نص الاستقالة من إنسانيتها، بدم الذين حرّضت على التخلص منهم، في اعتصامي ميداني رابعة العدوية ونهضة مصر.

ويبدو أن التراجع في الاستقالة ممكن وسهل، إلا في حالة الاستقالة من الإنسانية، لهاثاً وراء أول فرصة للترقي والصعود في مملكة الفاشية الناشئة، أو العائدة بكل تجهّم.

إنسان ما قبل الفض يختلف، شكلا وموضوعاً، عن إنسان ما بعد الفض، فالأول حورب بكل السبل، لكي يتحول، أو ينقرض ويموت، فيما حُمل الثاني على كفي مؤسسة الفاشية الجديدة، تهدهده وتلاعبه، وتغازله، إلى حين، قبل أن تطيحه وتدهسه تحت أحذيتها، بعد انتهاء تاريخ صلاحيته للاستخدام.

هذا النمط من “الإنسان” ينقسم إلى نوعين: الأول، يمكن أن تطلق عليه جماعة “فاشيون بلا حدود”، وهم مخلصون أوفياء لفاشيتهم، كونهم، منذ البداية، اعتنقوا “الكراهية” مذهباً، واتخذوها سبيلاً وحيداً، لإثارة أحط مكونات الوجود الإنساني، ليطفو على سطح تيار جارف، يرنو إلى استئصال الخصم السياسي وإبادته، وإزاحته من الحياة.

محمد أبو الغار، عجوز السياسة المصرية، المتخصص في علاج أمراض العقم، يقبض على فاشيته كالقابض على الجمر، لا يريد أن يزحزحه أحدٌ عنها، مخلصٌ لها حتى النهاية، فخور بما اقترفت يداه، قبل وبعد إراقة دماء آلاف المعتصمين السلميين في ميدان رابعة العدوية، شديد الوفاء لساديّته ومكارثيته التي تقوم على الفصل العنصري بين المصري المتعايش مع سلطة الانقلاب، والمصري الرافض جرائمها الدموية، فيتحدث عن مصالحةٍ حتمية، واجبة فوراً، بين نظام عبد الفتاح السيسي والذين أيدوه وعضدوه واستدعوه إلى الحكم، ممن يسميهم “القوى المدنية”، لهدف وحيد، هو الحيلولة دون سقوط الجنرال الفاشل، بكل القياسات، ما ينذر بعودة “الإخوان” إلى السلطة.. هكذا تحدث محمد أبو الغار إلى “الشروق” المصرية.

ضمن هذه النوعية من “الفاشية المتأصلة”، وإن بدرجةٍ أقل، يأتي علاء الأسواني، طبيب الأسنان، الذي يتحمس لاقتلاع البشر الذين لا يحبهم، من الحياة، بالدرجة ذاتها التي يتعاطى بها مع عمليات خلع الضروس والأسنان، فقبل أن يسجل عبارة إدانة خجولة لتعرية وتعذيب أستاذ الطب، محمد البلتاجي، يرصّ عبارات الإدانة القاطعة للإخوان المسلمين، وتحميلهم مسؤولية الأوضاع الكارثية، تحت حكم السيسي.. هو “يرفض التعذيب.. ولكن”، على غرار الامتعاض من الذين “يدينون الإرهاب.. ولكن”.

هذا النوع من إنسان ما بعد الفض تؤرقه فاشيته، وترهقه، غير أنه لا يتخلى عنها أبداً، كونها لا تزال تصلح غلافاً سميكاً، يقيه جنون ضربات السلطة من جانب، ويتوهم أن استمرارها يضمن له بقاء خصومه السياسيين “من الإسلاميين الأوغاد” خارج معادلات الحياة والسلطة.

أما النوع الثاني من “إنسان ما بعد الفض”، فهو الذي تمرّد على نوازع الإقصاء، والإزاحة، التي استسلم لها، على نحو براغماتي عابر، ثم أيقن أن فيها مقتله هو شخصياً، فخرج عليها، معارضاً سلطة الانقلاب، غير فاقد الأمل في إمكانية ترويضها واستئناسها وتهذيبها، ليتنافس معها، في سباق انتخابي، بعد حين.

يعافر هذا النوع للرجوع إلى حالة “إنسان ما قبل الفض”، أو “ما قبل استحلال دماء الخصوم”، غير أن هذا لن يتأتى من دون أن يدرك أصحابه فرضية التناقض الكامل مع مشروع عبد الفتاح السيسي، وغير ذلك يجعلهم أقرب إلى النوع الأول الذي يمثله بارونات الإقصاء والإزاحة، أبو الغار وحمدين والأسواني، وهلم جراً.

أما الإذعان لمنطق السلطة الحالية، في المنافسة السياسية، فهو إقرار بشرعية الولوغ في الدم، وصولاً إلى الحكم.

وهنا يحق لك، في ذكرى جريمة القرن “رابعة” أن تتساءل: كم ألف شاب اختُطفوا من الحياة إلى أقبية التعذيب وظلام القبور، كي يستمر السيد محمد أبو الغار كابساً على أنفاس الحياة السياسية، منظّراً ومفتياً ومتاجراً في بضاعة فاسدة، مكونها الرئيسي الحفاظ على حكم السيسي بأي شكل، كي لا يكون البديل عودة الإخوان؟

وكم ألف مواطن قُتل، وكم فتاة انتُهكت إنسانيتها وشرفها، كي يتسنى لعصام حجي لعب دور صانع البديل المنافس، ولكي يكتب علاء الأسواني تغريدةً يمثل فيها دور المعارض المجروح من نظام السيسي؟

كل من قبِل منصباً رسمياً، أو تم تصعيده وظيفياً بعد مذبحة “رابعة”، هو موافق على الدم، ومخرجات الدم، وبالتالي، يتحمل قسماً من المشاركة فيه، ولو بأثر رجعي.

وكل من لم يعتذر عن دوره المباشر، أو غير المباشر، في المذبحة، ليس من حقه الكلام عن العدالة أو عن المستقبل، أو عن استعادة مسار ديمقراطي، أو حالة مجتمعيةٍ تليق بالبشر. وكل من لا يعتذر للدم لا يمكن تصديق أنه حريص على حقن الدم وصيانته.

لا يستطيع أن يشارك في صناعة مستقبل متحضّر من لم يغسل يديه من ماضٍ متوحّش.