اسامة جاويش

حرب الجنسية

ملخص الوطن في “شنطة وجواز سفر” انتشرت هذه الجملة بكثافة بعد الانقلاب العسكري في مصر يوليو/ تموز ٢٠١٣، وكانت تعبيرا بلاغيا عن حالة إحباط كبيرة تملكت قطاعا واسعا من الشباب المصري، بعدما رأى أمامه كيف انقضوا على “ثورة يناير” وقاموا بوأد الحلم بوطن غير الوطن ومستقبل غير المستقبل.

العبارة وإن بدت تجسيدا لانعدام الانتماء للتراب الذي ولدت على أرضه ومحاولة الانسلاخ من الهزيمة داخل حدود الوطن، إلا أنها حملت دلالات كبيرة على ولادة جيل آخر جعل من الهجرة عنوانا ومن السفر محل إقامة ومن أختام الدخول والخروج على جواز السفر رفيقا.

يقول المولى عز وجل في سورة الحج واصفا المهاجرين “{الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا}”، في هذه الآية يمكنك أن ترى آلاف المصريين في الستة أعوام السابقة، يمكنك أن تسمع أصواتا تبكي في الطائرة وهي تغادر مطار القاهرة أو برج العرب في الإسكندرية وهي تتمتم بصوت خافت “والله يا رب بغير حق”.

ويمكنك أيضا أن تشاهد أستاذ العلوم السياسية المصري وهو جالس في صندوق عربة المهربين المكشوفة وهي تعبر به الحدود الجنوبية بين مصر والسودان، وهو يقول باكيا أثناء لحظاته الأخيرة داخل مصر: “والله لولا أن مجرميك أخرجوني ما خرجت منك أبدا”، شخصيا عرفت وتابعت مئات القصص التي جسدت وصف الله عز وجل للمهاجرين في سورة الحج.

النظام أيضا كان له الدور الأبرز في هذا فقد أخرجهم من ديارهم وصادر أموالهم، وفصلهم من عملهم وجردهم من وظائفهم وسعى لتشويههم وأمعن في اتهامهم بكل نقيصة واعتقل ذويهم وأرهب جيرانهم، وطاردهم بعد هجرتهم للخارج وطالب الإنتربول الدولي بتسليمهم وهددهم السيسي علانية على الهواء مباشرة، وحاول تضييق الأرض عليهم بما رحبت حتى بدأت رحلة الهجرة الثانية للكثير من هؤلاء المخرجين من ديارهم بغير حق.

من الطبيعي إذا رزقك الله بمولود جديد أن تفرح وتقيم الولائم وتدعو الأهل والأصدقاء لمشاركتك الفرحة، ولكن الصورة ليست بهذا الشكل أبدا مع من أخرجهم النظام المصري رغما عنهم من مصر. النظام بدأ منذ فترة في اتباع سياسة لا إنسانية مع المعارضين في الخارج فمولودك الجديد ربما ترفض القنصلية المصرية أو تتعنت في استخراج شهادة ميلاد أو جواز سفر مصري له فتحرمه الدولة من أبسط حقوقه المدنية هكذا وبكل بساطة فقط لأن والده أو والدته من المعارضين فيصبح الأب والأم في خبر كان ولا يملكون من أمرهم شيئا.

قطاع آخر من طلبة الجامعة ممن فصلوا من جامعاتهم بأوامر عسكرية فخرجوا منها خائفين في ترقب، هؤلاء الطلاب ومعهم قطاع آخر من السياسيين المصريين والإعلاميين يعيشون كابوس اسمه انتهاء صلاحية جواز السفر المصري ومنهم من وجد نفسه بالفعل بدون جواز سفر ولا يستطيع تجديده أو استخراج جواز سفر جديد، والسبب أن القنصلية تتعنت وترفض وتسوف وتعطي أسبابا واهية حتى تمل وتحبط ولا تجد لك من سبيل.

والأكثر أن القنصليات المصرية أحيانا ما تقترح عليك الحصول على وثيقة سفر إلى مصر لاستخراج أوراقك الرسمية، في مزحة سخيفة، فالسفارة والقنصلية تعلم أنك ستعود بهذه الوثيقة إما إلى العقرب وإما إلى سجن طرة.

من انتهى جواز سفره وتعنتت سلطات بلده ووطنه في منحه أبسط حقوقه المدنية ماذا عليه أن يفعل؟ هل يفترض أن يموت كمدا وألما؟ وإن كان عائلا لزوجة وأطفال يحتاجون إلى الذهاب للمدارس واستخراج إقامات وتقنين أوضاعهم القانونية، فماذا بالله عليكم يفعل دون جواز سفر مصري؟

لجأ هؤلاء وأنا منهم إلى مسارين لا ثالث لهما؛ أولهما: التقدم بطلب إلى سلطات البلد الذي هاجرت إليه -وأبرزهم تركيا- بطلب لمنحك الجنسية بشكل استثنائي، ولأن تركيا دولة تعرف جيدا ماذا يفعل نظام السيسي بمعارضيه فقد بدأت بالفعل بمنح بعض المصريين في المهجر الجنسية التركية لهم ولزوجاتهم وأطفالهم، وهو أمر يحمد لتركيا بالتأكيد. وفيه استلهام لما فعله النجاشي مع جعفر بن أبي طالب وطليعة المهاجرين إلى الحبشة من أنه حاكم لا يظلم عنده أحد كما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع سياسات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلا أنه بهذه الخطوة قد جعله الله سببا في منح الحياة لعوائل كثيرة من المهاجرين.

ثاني هذه المسارات وهو الأصعب: هو محاولة تقديم اللجوء السياسي في إحدى الدول التي تحترم حقوق الإنسان وتمنح حق اللجوء السياسي والإنساني لأي شخص يثبت أنه يواجه خطرا حقيقيا إذا ما عاد إلى بلده.

في هذا الطريق الشاق من الهجرة أيضا يتعرض المعارضون إلى ضغوط هائلة نفسيا وماديا وبدنيا، حتى تمر من مرحلة النظر في طلب اللجوء الخاص بك وكم هو مر وصعب على النفس أن تجلس لتشكو حكومة بلادك وتصف أهوالا عايشتها داخل وطنك، فقط لأن لك رأيا سياسيا مخالفا ولكن هذا ما نعيشه.

النظام المصري يبدو أنه لم يعجبه لا هذا المسار ولا ذاك، فشن حربا قديمة جديدة لإسقاط الجنسية المصرية عن من حصلوا على جنسية دولة أخرى، وتحديدا تركيا، فاتهمتهم بالخيانة والعمالة. ولكن النظام المصري نسي أو تناسى أن الجنسية المصرية أقوى من أوراقهم وليست منحة من جنرالهم.