النحلة التي لسعت مصر الخرساء.. بقلم : وائل قنديل

الحكاية ببساطة أن محمد علي تعرض لسرقةٍ بالإكراه، في الطريق العام، ولم يحصل على حقه بالقانون، فقرّر أن يتعلم فنون الدفاع عن النفس، حتى صار بطلًا أسطوريًا، في كتاب التاريخ.
من المساهمين في صنع أسطورة محمد علي رجل أمن نصحه بأن يتدرّب على فن النزال، وساعده في ذلك، كي لا يستولي أحدٌ على حقوقه بعد ذلك، فكان ذلك البطل، رغم أنفه، يحوم كالفراشة ويلسع كالنحلة.
بين محمد علي، الملاكم الأميركي الأسود، ومحمد علي المصارع المصري، الممثل المقاول الأسمر، ثمّة خيوط تتقاطع لتصنع أسطورة شخصٍ تحول من إنسان عادي إلى بطل يفاجئ العالم بقوته التي هزت عروشًا وهزمت أقوى الأقوياء.
لم يكن محمد علي، الملاكم، في بداية حياته مهمومًا بالمعاني الضخمة والقيم الفلسفية الكبرى، بل كان ذلك الصبي الذي استولى”الفتوة” على درّاجته بالقوة، فراح يتعلم كيف لا تتكرّر معه المأساة مرة أخرى، فألقت به المقادير في حلبة الملاكمة. ومع الوقت، تشبّع بمنظومة من القيم الأخلاقية والسياسية، فانتقل من حالة صاحب حقّ ضائع إلى حالة حامل رسالةٍ إنسانيةٍ تتوخى العدالة والمساواة ومحاربة التمييز بين البشر على أساس اللون أو العرق.
شيءٌ من ذلك يمكن أن تلمحه في حالة محمد علي المقاول، مع الفارق، إذ لم ينكر الأخير شراكته مع الأوغاد الجبارين، والانتفاع منهم، وأن نقطة التحول، أو التمرّد على جبروتهم كانت الاستيلاء على ما يراه حقًا له عنوة وغدرًا، فبدأت القصة بمحاولة استرجاع ما سُرِقَ منه، ثم انتقل من الخاص إلى العام، انتقالًا عفويًا بسيطًا، ليجد نفسه فجأةً متحدّثًا باسم المقهورين المهدرة حقوقهم، الممصوصة دماؤهم. ومن حيث لا يحتسب، وجد نفسه تلك الأيقونة الغائبة، وذلك الرمز الذي تلقفه الموجوعون والتفوا حوله، أو بعبارة واحدة النحلة التي سيّرها الله لتلسع، نيابة عنهم، من أمعن في البطش بهم والاحتيال عليهم وأثخن جراحهم.


لم يعد السؤال المهم الآن: لماذا أصبح محمد علي مقاتلًا؟

ما يهمنا أنه، في الحالتين، الملاكم والمقاول، تحوّل إلى أيقونةٍ لتحدّي بطش الأقوياء الجبارين، وصار رمزًا للمستضعفين الذين لا حول لهم ولا قوة أمام هذا الجبروت، والتاريخ مليءٌ بقصص البشر العاديين الذين تحوّلوا من دون أن يخططوا أو يتوقعوا ذلك، إلى أبطال خارقين وحاملي مشاريع وأحلام ورسالات ورسائل، باتت جزءًا من تاريخ الإنسانية.
الشاهد أن الجماهير صارت تضبط ساعتها على توقيت محمد علي، وتترقّب بثه المباشر كما لو كانت تنتظر البيان التالي في معركةٍ حامية الوطيس، يخوضها نيابة عنهم ويتفاعلون معها، على اختلاف مستويات الوعي والثقافة والانشغال بالهم العام، حتى الذين ينظرون إلى الأمر بارتيابٍ و تحفظ، أو حد رفض للقصة برمتها، يجدون أنفسهم مشاركين في النزال عبر شاشات التلفزيون والكمبيوتر.
زلزال محمد علي الذي يضرب مصر، منذ الأسبوع الماضي من مركزه في إسبانيا، هو الأعنف في تاريخ فساد السلطة وسلطة الفساد في مصر الحديثة، مُحدثًا أضخم قدر من الاهتزازات والارتدادات في بلدٍ أخرس، أشعلوا النار في حنجرته، ووضعوا مكانها زمارة، تنطلق أوتوماتيكيًا، كلما ظهر السلطان الحاكم، متحدثًّا عن الرخاء والبناء وصناعة المجد الكاذب.
لسعات محمد علي المصوّرة طيرت النوم من عين أهل السلطة، وبعثرت كل الأوهام، وحطّمت كل الأصنام، وأطاحت عقل النظام، فاعترته موجاتٌ من التخبط والهذيان، كمن يحاول سد عين الشمس بمناديل ورقية، غير أن الزلزال الرهيب لم يحرّك ساكنًا في أهل الكهف من أحزابٍ تنتحل صفة المعارضة، وشخصيات عامة شيدت صورتها النضالية الوهمية باعتبارها من محاربي الفساد