المعلم وبناء الوعي المستنير

إن تشكيل وعى أمة أو بناء ذاكرتها ليس أمرا سهلا ولا يسيرا، ولا يتم بين لحظة وأخرى أو بين عشية وضحاها، إنما هو عملية شاقة ومركبة، وأصعب منه إعادة بناء هذه الذاكرة أو ردها إلى ما عسى أن تكون قد فقدته من مرتكزاتها، فما بالكم لو كانت هذه الذاكرة قد تعرضت للتشويه أو محاولات الطمس أو المحو أو الاختطاف، ولا سيما لو كان ذلك قد استمر لعقود أو لقرون؟!

لقد تعرضت ذاكرة الأمة عبر تاريخها الطويل لمحاولات عديدة من المحو أو الشطب أو التغيير، ناهيك عن محاولات الاختطاف وحالات الخمول والجمود، وأصبحنا فى حاجة ملحة إلى استرداد هذه الذاكرة من خلال إعادة تنشيطها وتخليصها مما علق بها من شوائب فى مراحل الاختطاف والتشويه جراء محاولات المحو أو الشطب أو التغييب.

والمعلم يلعب دورا رئيس ومحورى في بناء وعى الأمة، بل هو مهندس وصانع هذا الوعى ، لما يملكه من مؤهلات وقدرات، ولما تتاح له من الفرص، وتهيئ له من الإمكانات التي لم تتح لغيره.

فمناهج التعليم التي يدرسها المعلم، هي المدخل لبناء الإنسان، معرفياً ووجدانياً واجتماعياً وبدنياً وقيمياً ومهارات، فالمدرسة ليست مجرد ساحة لاكتساب المعلومات، إنما هي مؤسسة لتنمية المعايير الأخلاقية، والقيم الإيجابية، ومكارم الأخلاق والفضائل الإنسانية، ولتنمية أخلاقيات ومفاهيم المواطنة، وقيم الحق والعدل والعمل والحوار والإبداع والتفكير العقلاني والعلمي والنقدي والتعاون والتسامح، ونبذ التعصب والغلو.

وتشكل منظومة القيم، مكوناً أساسياً في ثقافة المجتمع، وتشتمل هذه المنظومة على مجموعة من القيم المترابطة، والممتدة على مساحة المناهج الدراسية، والتي يسعى التعليم لغرسها في المتعلم، لتحكم سلوكه وقراراته وأحكامه، واختياره لبديل من البدائل المطروحة أمامه، وتنظم علاقته بنفسه وبالآخر، وبالواقع نظماً ومؤسسات، وتحدد رؤيته للكون والبيئة من حوله.

ولا تتحقق هذه المنظومة، من خلال التلقين والوعظ اللفظي، وحفظ المعلومات وتخزينها واسترجاعها مفرغة من كل قيمة حافزة، وإنما تترسخ عن طريق النشاط الجمعي، وتنمية العقلية النقدية الباحثة دوماً عن الحكمة، والتدرب على فعل الإنجاز والحوار والمشاركة، وتمثُّلٍ، قولاً وفعلاً، لقيم الصدق والمثابرة واحترام الآخر المغاير، وتنمية ما يسمى «بالضمير المهني والضمير الأخلاقي».

وهذا هو المعيار الحقيقي لعملية التعليم، وليس الامتحان «وشهادة التخرج». إن ناتج التعليم الحقيقي، هو كل ما يتبقى في ذهن المتعلم، بعد أن ينسى كل ما تم «تلقينه في المدرسة، أي أن الذي يبقى هو منظومة القيم، قيم التفكر والتدبر ومنهج التفكير النقدي والعقلي، في الواقع المتغير للحياة.

إن بناء الوعى يتطلب الإلمام بحجم التحديات التى تواجهنا، لأننا دون إدراك هذه التحديات ودون الوعى بها لا يمكن أن نضع حلولا ناجحة أو ناجعة لها، وإذا كان المناطقة يؤكدون أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فإن معالجته أو مواجهة ما يرتبط به من تحديات لا يمكن أن تتم دون سبر أغوار وأعماق هذا التصور، مما يتطلب تسليط الضوء على تحديات واقعنا المعاصر، للعمل على خلق حالة من الوعى تسهم فى معالجتها، وحل إشكالاتها أو فك شفرتها، أملا فى الخروج من حالة التشظى والتأزم الفكرى إلى حالة من الرشاد الفكرى والديناميكية الفكرية التى تعمل على بناء الذاكرة وبناء الأمة معا، مع التركيز على القضايا الحيوية والمحورية: دينية، ووطنية، وثقافية، ومجتمعية، مثل: إرادة التغيير، والتحول من حالة الجمود والتقليد إلى الإبداع والابتكار والتجديد، والتفرقة بين الثابت والمتغير، و نشر صحيح الدين والعلم والفكر والثقافة، وصولا إلى بناء ذاكرة واعية مستنيرة لمجتمعنا وأمتنا، تأخذ بأيدينا إلى الإسهام الجاد فى بناء الحضارة الإنسانية، وترقى بنا إلى المكانة التى تليق بنا فى مصاف الأمم الأكثر تقدما ورقيا ورخاء.