المسلمون حسموا مقاعد مجلس بلدي بولاية ميشيغان.. لماذا اختارهم الأمريكيّون؟

كتب د. طارق أبو غزالة مقالا في عربي بوست، معللا فيه فوز مسلمبن بالكامل بعضوية المجلس البلدي بإحدى مدن ولاية ميتشيغان الأمريكية، وجاء فيه ما يلي:

“في سابقة هي الأولى في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية المجلس البلدي في مدينة هامترامك في ولاية ميشيغان سيكون كله من المسلمين.

لا يعني ذلك أن كل سكان المدينة من المسلمين، كما لا يعني ذلك أن انتخابهم تم بسبب دينهم، فمن المعروف أن الانتخابات في الولايات المتحدة الأمريكية تجري بين مرشحين يتنافسون على خدمة الناس، حسب برامج يقدمونها للناخبين خلال فترة الحملات الانتخابية، يتناظرون خلالها أمام العامة على رؤيتهم لكيفية حل مشاكل الناس، كما يجيبون عن أسئلة الناس المتعلقة ببرامجهم الانتخابية.

ثم في النهاية يتوجه الناس إلى صناديق الاقتراع، مُدلين بأصواتهم بحرية كاملة، ليفوز في نهاية المطاف المرشحون الذين يحصلون على غالبية الأصوات ولو بفارق صوت واحد، لتبدأ بعدها المرحلة الأصعب، وهي تسلم من فاز بالانتخابات مناصبهم، والبدء بالعمل لتنفيذ البرامج التي حصلوا بموجبها على أكثرية الأصوات، التي تخولهم مدة زمنية محددة بدقة لتنفيذ تلك البرامج.

 إذاً فالانتخابات ليس غرضها إلا خدمة الناس عبر المفاضلة بين المرشحين المتقدمين بسيرتهم الذاتية مع تمكينهم من تنفيذ هذه البرامج بالأدوات التنفيذية، وبالزمن اللازم للتنفيذ، وهو عادة ما يتراوح بين أربع إلى خمس سنوات.

هذه الدورة الانتخابية تجري في دول الغرب بكل سلاسة، لأنها أصبحت الآلية التي يحتكم إليها الناس في الدفع بأمورهم إلى الأمام.

هذه الآليات الديمقراطية في التدافع دفعت المفكر الفرنسي أليكسيس دو توكوفيل، الذي كان منتدباً من قبل الجمعية الوطنية الفرنسية عام 1830 إلى الولايات المتحدة لدراسة النظام الجزائي فيها، إلى تغيير دراسته لأمر آخر تماماً، وهو كيفية تسيير الشعب الأمريكي لشؤونه، والتي دوّنها في كتابه المهم جداً “الديمقراطية في أمريكا”.

يقول دوتوكوفيل: “الأمريكيون من كل الأعمار، وكل الحالات وكل الأفكار يتحدون بشكل مستمر، هم ليس لديهم جمعيات تجارية وصناعية فحسب، والتي يتشاركون فيها جميعاً، لكن لديهم ألف نوع آخر: دينية، أخلاقية، خطيرة، عقيمة، عامة جداً، خاصة جدا، كثيفة وصغيرة جداً، الأمريكيون يستخدمون الجمعيات لدفع الصدقات، لتأسيس المقابر، لبناء النزل، لبناء الكنائس، لتوزيع الكتب، لإرسال التبشيريات للقطبين، بهذا الشكل يبنون المشافي والسجون والمدارس، وأخيراً إذا كان هناك سؤال لإلقاء الضوء على حقيقة أو لخلق مشاعر تدعم مثالاً عظيماً فإنهم يتجمعون”.

في أمريكا واجهت أصنافاً من الجمعيات، والتي أعترف أنني لم يكن لدي أي فكرة عنها، وغالباً ما كنت معجباً بالفن اللامتناهي الذي تمكن عبره سكان الولايات المتحدة من المزاوجة بين هدف عام وجهود رجال كثيرين للدفع بهذا الهدف بحرية”.

هذا هو إذاً أسُّ الديمقراطية الغربية، وهو تجميع الناس في جمعيات حول أهداف معينة يختارونها بحرية، ثم القيام عليها لتحقيقها.

هذه الجمعيات المدنية هي الناظم للحياة في أمريكا من الكونغرس الأمريكي في القمة، إلى جمعية أهل الحي التي تسير شؤونه من نظافة وترتيب ومراقبة المظهر العام للحي، كي لا يعتدي جار على جار، ومن خلف ذلك كله قضاء يُحتكم إليه حال اختلاف الناس فيما بينهم.

أما في بلاد العرب فالجمعيات أصلاً ممنوعة، ولا يسمح بها، ولو على مستوى الحي، والمختار والعمدة تعيِّنهم أجهزة المخابرات، لا لخدمة الناس ولكن لمراقبتهم وإرسال التقارير لفروعها، لتقوم باللازم في حال تجرأ بعض الناس وقاموا بحملة لتنظيف شارع الحي وتزيينه بالورود لا سمح الله، والحوادث على ذلك أكثر من أن تُحصى يعرفها القاصي والداني.

أما الجمعيات المهنية أو ما يُعرف بالنقابات فقد تمت السيطرة عليها بالإرهاب وفرز قيادات نقابية منتخبة “زوريّاً”، تعمل على تثبيت أركان الأنظمة الحاكمة بالسيطرة على مصالح قطاعات مهنية واسعة في المجتمع، من أطباء وأطباء أسنان وصيادلة ومهندسين ومحامين ومعلمين وحرفيين، فارتبطت تراخيص العمل التي تصدرها تلك النقابات بالتقارير الأمنية التي يجب على كل مزاول للمهنة أن يحصل عليها، وكأن قلع ضرس لا يمكن أن يقوم به إلا طبيب أسنان تفكيره في الشأن العام يجب أن يوافق تفكير عنصر المخابرات أو العسكري المسؤول عن ملفه الأمني!

هذه المعضلة هي التي تتحكم اليوم في كل الشأن العام العربي، من رئاسة الدولة إلى تنظيف المجاري العامة.

ما يفتقده العرب اليوم في بلادهم الأم هو حرية اختيار ممثليهم في كل المجالس والجمعيات والمؤسسات، وهو الأمر الذي حرموا منه في بلادهم، حيث اختيار الممثلين يتم حسب هوى الحاكم المستبد وأجهزة مخابراته، التي تختار أسوأ الناس ليكونوا سيوفاً مسلطة على الشعوب ينفذون أجندة الحاكم بأمره.

 هذه الأجندة التي تأتيه جاهزة من بلاد الغرب لتأمين استقرار هذه البلاد، هذه الأجندة أشار إليها الرئيس أوباما بكل صراحة في كتابه الأخير “أرض الميعاد”، حين تحدث عن الربيع العربي، إذ اعترف أن الولايات المتحدة ولعقود طويلة كانت تغض الطرف عن ممارسات الحكام القمعية تجاه شعوبهم، في مقابل “الاستقرار”، وهو الأمر الذي لم تعد تطيقه الشعوب العربية، فانفجرت تريد حريتها في أن تكون لها كلمة في تسيير أمورها.

هذا الانفجار العظيم لم يكن سببه إلا التراكم الكبير للذل والمهانة، تحت القهر الذي منع الناس من إبداء رأيهم في أبسط مناحي الحياة التي تؤثر فيها، والتي احتكرتها “القيادة الحكيمة”، التي لا تُسأل عمّا تفعل وهم يُسألون.

إن الربيع العربي لا يزال مستمراً اليوم بنسخته الثانية، بعد مرور عقد كامل عليه، ولن تستطيع كل القوى التي تكالبت على الشعوب العربية أن تغير من مسار الربيع الأول الذي تتلخص مطالبه في جملة واحدة: “حرية اختيار أو خلع ممثليه، دون المرور عبر المخابرات وأقبيتها”، هذا ما حدث الأسبوع الفائت في مدينة هامترامك في ميشيغان، وهذا ما سيحدث عاجلاً أو آجلاً في بلاد العرب”.

المصدر     عربي بوست