القبول اللا-واعي بالاستبداد

القبول اللا-واعي بالاستبداد

سبق وأن طرح بعض العلماء والمفكرين مفاهيم حول “القابلية للاستعمار” –للمفكر مالك بن نبي، و”التغرب اللاواعي”-للمفكر الإيراني داريوش شايغان- حيث كانت تلك المفاهيم تؤطر للبحث في حقيقة الأزمة الحضارية التي تعيشها شعوبنا، فقد لفت انتباه هؤلاء المفكرين أن جزءا كبيرا من المشكلة إنما هو في الذات نفسها الواقع عليها مغبة التغريب أو الاستعمار، فهي المجني عليه، وفي الوقت نفسه هي أحد أهم أدوات وقوع هذا الفعل المرفوض..وعلي ذلك يكون فحص تلك الذات وإجراء مراجعات فردية وجماعية لها؛ إنما هو ليس فقط خطوة هامة نحو دفع الباطل أو التغلب علي هذا الخصم -تغريبا فكريا كان أو استعمارا ماديا- وإنما هو الخطوة الأهم في بناء تلك الذات التي يمكنها أن تحتضن دواعي البناء الإعماري والحضاري الجديد، فلا تنفر منه أو ترفضه وتقبل داعيات الاستعمار إذا جاءتها في أشكال ومظاهر أخري خدّاعة..

ومن المؤسف أن نجد البعض يقتصر في مساحة فحص الذات تلك علي عمل قراءة لاحقة أمامية لبعض الممارسات السياسية المباشرة؛ بحيث ينظر إليها من موقع المُبتلي نظرة المتيقين من صياغة تلك الممارسات في خانة السبب، والمآسي الحاضرة في خانة النتائج..وبعيدا عن مناقشة تلك الفرضية؛ إلا أنها تبدو وكأنها مُسلمة جالبة للراحة؛ لإغلاقها منصات مناقشة فحص الذات علي تلك المساحة الضيقة المباشرة للعمل السياسي شديد الاحتكاك بالخصم والمواجه له..فتبقي الذات الفردية والجمعية للشعب بأكمله في مأمن من الفحص وما يتبعه من عمل وإصلاح لازمين..

وبالعودة إلي البحث عن مواطن الخلل؛ نجد أن ما يفعله عمدا الاستعمار وجحافله، والتغريب وقنواته التعليمية والإعلامية والثقافية، إنما ينتج مثيل له أيضا ببعض من مظاهر “القبول اللا-واعي بالاستبداد”؛ والحديث هنا ليس مقصورا علي هؤلاء الذين رضوا بتنكيس رايات الحق، ورفعوا الانقلابيين والعسكر علي الكتف وفوق الهامة والجبين، فعلي الأقل هذه الفئة من الجماهير عبرت بشكل مباشر عن رضاها بما أسماه المفكر الإسلامي –محمد أحمد الراشد- بالردة عن الحرية، وقدسوا كافة مظاهر هذا النكوص بجلاء وعلانية؛ بحيث لم يبقَ قِبَلهم سوي محاولة الغوص في تلك الأنفس  التي تقبل هذا الصغار وتسعي لتمكينه وإعلاء رايته..

ولكن الأخطر الآن والذي نتحدث عنه، هو من يقبل بشيء من مظاهر الاستبداد قبولا غير واعيا، لأنه لم يستطع إدراك هذا الترابط بين هذا المظهر الاستبدادي الذي يتغلغل بداخله، وبين سيادة الانقلاب وسيطرته واستمرار تواجده..ويمكننا في تلك الأسطر القليلة رصد بعض السمات التي يمكن تشخيصها بأنها “قبول لا-واعي بالاستبداد”، فيكون التعرف عليها والوعي بها أول طرق محاصرتها ومن ثم تربية الفرد والمجتمع علي تجاوزها والتغلب عليها..

أولا:فقدان الثقة في الذات والمجموع

لفت نظري في الشارع المصري بعد موجة الغلاء الأخيرة؛ أن بعض المتضررين وقد فوجيء بارتفاع الأجر في المواصلات العامة إلا أنه ألقي به ومعه الثمن المضاف حاملا جام غضبه علي الشعب برمته، والذي نعته بأنه لا يستحق سوى هذا الهوان والصغار، شعب ليس جديرا سوي بتلك العيشة المرة النكدة؛ فهي وحدها التي تليق به!

والحق أن أي مستبد سوف يسعد جدا بوجود عقلية كتلك فيمن حوله؛ بل إذ لم تكن موجودة فسيسعى هو حثيثا لتكوينها في الأفراد والجماعات علي حد سواء؛ ففقدان الثقة في النفس وإمكانياتها وقدراتها هي التكئة التي تُمكنه من السيطرة وفرض الإراداة، وإقناع هذا الشعب أنه يعرف أكثر منه، وما عليهم سوي اتباعه عميا وصما. كما أنها تبدو تحويلا في اتجاه النقمة والرفض فبدلا من أن يتجها إلي المستبد والعدو الحقيقي فإنهما يفرغان جل طاقتهما في الطرف الأضعف، والذي هو شخص اعتباري خائر القوي لن يهب للدفاع عنه أحد..!

وهناك ميزة أخري للمستبد حين يتحكم فيمن هو فاقد للثقة بنفسه؛ فمثل هذا الشعب لن يفكر في عمل أية إصلاحات جذرية، وبالأحري لن يفكر في الثورة علي الظلم؛ فحتي وإن عرف الفساد وطريق الخلاص منه؛ فإن ضعف ثقته بنفسه لن تجعله يخالف التعامل النمطي الذي ورثه عن الآباء والأجداد؛ فإذا كان الأجداد قد عاشوا ورضوا وقبلوا، فلتمض الحياة بالجميع هكذا..والأخطر من ذلك أن عيبا كهذا لا يتعلق فقط بمعسكر رافضي الانقلاب علي سبيل المثال؛ وإنما نجد منه أيضا الباع الكثير في معسكر مؤيدي الشرعية، ممن يرون النصر بعيدا والأمل هراء، ويسربون مثل مشاعر الانهزامية تلك لمن حولهم وكأنهم يسعون للسيادة اللا-واعية لمجتمع الإحباط واليأس..وينسون وسط ذلك أن النفس المنكسرة لن تبحث عن طريق للخلاص، ولن يسعها أن تقدم علي إبداع أفكار ثورية أو إصلاحية جديدة، فهناك غطاء أسود يسبق بؤر التفكير فيعلوها….

وعليه فعيب ذاتي قد لا يلتفت إليه الكثيرون يتيح للإستبداد أن يقهر الشعوب والأفراد ويسيطر عليها، و يخمد بداخلها أية مقاومة أو إبداع واجتهاد لدفعه..

والمطلوب هنا ليس ثقة زائفة أو تغريدا غافلا حول حضارة السبعة آلاف سنة وما شابه، بل هو في أقل تقدير إيمان بتلك الكرامة الإنسانية التي امتنّ رب العالمين بها علي بني الإنسان، ووهبها له لتكون منطلقا في العمران والسعي، فضلا عن الوعي بكل تلك الهبات والملكات الخاصة علي تعددها، والتي إذا اجتمعت وتآزرت لصنعت ما كان مظنة المستحيلات، والغير ممكنات.. فالتغيير صنيعة لليد المجتمعة بجهود كل الأفراد، وليس بجهد كوكبة بعينها محمول في أعناقها كل المهام.

ثانيا: فهم الانتماء فهما “مصلحيا” نفعيا

مما يلفت الانتباه كذلك في الفترة الأخيرة هذا الحديث الدائر حول الجنسية المصرية، وإعلان الكثيرين أنهم علي أتم الاستعداد لبيعها؛ ورغم أن تلك الأقوال تأتي في إطار السخرية والتهكم علي هذا القانون الجديد الذي يريد الانقلاب تمريره؛ إلا أنه لغط كاشف عن حقيقة ما هو كامن بالفعل من ضعف الوشائج بتلك البلاد، يؤكد ذلك أيضا السعي الكثيف للهجرة، أو السفر للخارج حتي وإن لم يكن ذلك لارتباطات مهنية أو مطادرة أمنية، بل بات هذا هو المأرب الذي يتأمله وافر من القوم..

وبالطبع ففكرة السفر أو المغاردة ليست مرفوضة في ذاتها إذا كانت بمنطق المتحرف للقتال أو المتحيز إلي فئة، أما منطق الفرار من أمام التحدي واختيار بيئة أفضل للّوذ بها والارتماء في أحضان مظاهر الحياة الرغدة فيها؛ دون أن تكون الغاية هي التزود بالمنافع لإعادة الكرة وتحقيق الخير للوطن والأهل؛ فهذا هو الفهم الذي نراه مجانبا للصواب في معني الانتماء، والذي يظنه البعض عطاء وانتفاعا أحادي الاتجاه؛ فإذا انتفى ذلك صارت البلاد عبئا علي أصحابها يبحثون ويتصيدون الفرص لتركها والبحث عن غيرها.

أما حقيقة ما نراه في الانتماء فهو ما يقع في باب الواجبات بأكثر منه في باب الحقوق؛ فالاستخلاف الرباني للإنسان يضعه بين مجموعة من الدوائر والمحاضن ما بين أبناء وأسرة وأقرباء وجيران..فإذا كانت دوائر تلك العلاقات من رغد العيش وسعة القلب والعقل، ابتُلي الإنسان بالخير والعافية بينهم، أما إذا كانوا غير ذلك كان ابتلاء الإنسان هو دوره الذي يمارسه تجاههم في الإصلاح والتوجيه نحو سبيل الخير والرشاد، وبذل النفس والمال لهم كأصحاب حقوق لا يمكن التنصل منها و البحث عن غيرهم ممن هم أوفر نصيبا وأحسن حظا، وغض الطرف عن هذا الحبل المتين الذي يمتد رابطا أعناقنا بمسؤوليات متبادلة؛ لا يكون معها تقصير طرف، أو ظلمه ذريعة لتقصير مماثل أو لقطع هذا الحبل والتحلل منه..

وكيف للمستبد ألا يسعد بتلك الروح التي تسعى للتحرر والتخفف من دوائر انتمائها حينما تطالبها بالبذل والعطاء، فما عليه سوي الدفع في هذ الاتجاه حتي يفر الجميع من التحدي فيتركوا بذلك ليس فقط نصيبهم من المسؤوليات، ولكن نصيبهم كذلك من الحقوق ومستقبل الأبناء..

الانشغال والتقوقع حول “البناء المحدود للذات والمستقبل”:

يفهم البعض دورهم في الأعمال الجمعية والدعوات الإصلاحية الهادفة لتحقيق تغيرات جذرية بحجم الأمة بأكملها، أنه مجرد مهمة أو بضعة واجبات سوف تنضم إلي جدول أعمالهم ووظائفهم اليومية والشهرية، وتمضي الحياة بهم وهم يخططون لحياتهم ومستقبل أسرهم بمنطق الفرد في الحضارة والفكر الغربي، هذا الذي يري أنه قطعة مستقيمة وليس نواة في دائرة أكبر وأهم، وما أيسر علي المستبد أن يسيطر علي شعب يعيش أفراده كالقطع المستقيمة في جزر منعزلة، ليس انعزال الجوار والأرض وإنما انعزال المشروع والقضية المشتركة..

فالتفكير بمنطق “الفرد-القطعة المستقيمة” يجعل التخطيط للحياة كما لو كان بدايتها ونهايتها الفرد ذاته، فهو يأخذ حظا من التعليم والعمل ويسعى لامتلاك المال والثروات، وربما نجح بالفعل في صناعة نفسه كرمز يشار إليه بالبنان، لكن المشروع الذي بناه في النهاية لم يتعد حدود ذاته سوي بالقليل، وهو هذا الذي نظن أنه قد يفيد أمته من بعض علمه أو ماله..لكن الإطار والبوتقة الذاتية كانت هي الحاضرة والمهيمنة علي اتجاه التفكير والسعي، ولذا فحجم الفائدة التي عادت علي الأمة من هذا “الشخص-القطعة المستقيمة” بالضبط مساوية لمساحة بند مشروع الأمة وهمومها في دفتر مواعيده أو خطة مستقبله وطموحه وأحلامه، بحيث إذا اتسع هذا البند  فشمل الدفتر بأكمله تحول هذا الفرد إلي النوع الثاني؛ أي “الفرد- الدائرة” فهذا النموذج يرى نفسه وقدراته الخاصة ومهاراته حكرا علي رأس مال مشروع أمته الأكبر، فتلك المصلحة الجمعية هي البوصلة أمام عينيه وهو يختار دراسته أو مهنته، أو يبحث عن تطوير ملكاته أو حتي وهو يؤسس أسرة ويربي أبناء وأحفاد…فحياته دائرة تتحد مع مشروع الأمة وليس فقط تتقاطع معها في بعض المحطات..