الفرعون بين العلو والسقوط

الفرعون هو لقب حاكم مصر المتأله، وقد ارتبطت الفرعونية بالعديد من الصفات المرذولة؛ منها الطغيان والاستكبار والعلو في الأرض بغير الحق، والظلم، والفساد والاستبداد، والسفاهة وفساد الرأي، وجنون العظمة، وادعاء الحكمة، والقسوة والوحشية واضطهاد المخالفين، والاستعلاء علي الناس، وادعاء الألوهية، والكبر والعناد، وجحود الحق بعد التيقن منه، وغيرها من صفات صورها القرآن الكريم أفضل تصوير.

إن صورة الفرعون في القرآن الكريم هي صورة المسخ الذي تجرد من الإنسانية، وصورة القزم المتعاظم، والسفيه المتعالم، والوحش الوالغ في الدماء البريئة، وهي صورة شائهة تنفر منها كل الطباع السليمة، ومما يزيد الصورة تشوهاً هؤلاء الأتباع الأذلاء الذين يسيرون في ركاب الفرعون، ويسبحون بحمده، ويجعلون من هذه الدمية القميئة معبوداً لهم.

 لقد عبر القرآن الكريم عن صفة العلو في الأرض عند الفرعون المتأله فقال سبحانه: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾(القصص: 4)  وقال: ﴿وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾(يونس: من الآية 83) وقد سرت عدوي هذا العلو المصطنع من الفرعون إلي الملأ والأعوان والحاشية: ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ﴾(المؤمنون: 45 – 46). وهكذا الأخلاق تعدي كما تعدي الأمراض.

وقد أورثهم هذا العلو الكبر والبطر وحجود الحق: فعندما جاءتهم البينات علي لسان موسي وهارون عليهما السلام حملهم الكبر علي أن يقولوا: ﴿أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ * فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ﴾(المؤمنون:  47 – 48) وذلك بعد أن ظهر الحق واضحاً، وقامت عليه الحجة البينة المقنعة، والبرهان الساطع المبين: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾(النمل: 13 –  14).

وهذا العلو هو الرذيلة الكبري التي تتولد منها الرذائل الأخري، فالظلم باعثه الكبر والبطر والاستعلاء علي الناس، وهذا كله ناتج عن العلو في الأرض بغير الحق، ومن رذائل العلو أيضاً الطغيان ومجاوزة الحد في العدوان علي حقوق الناس وازدرائهم والإفساد في الأرض، والإسراف في كل شيء، وقد كان أحد أسباب إرسال موسي وهارون إلي فرعون هو مقاومة هذا الطغيان الذي يمثل الجانب العملي من العلو: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾(طه: 24) ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾(طه: 43). وهذا الطغيان هو سبب الفساد الذي يجلب الهلاك﴿وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾(الفجر: 10 – 14).

ورغم أن الفساد  والإفساد  من الصفات الملازمة للفرعونية، إلا إن العلو والكبر والبطر والظلم يدفع الفرعون وحاشيته المتخمة بالمال الحرام من دماء الناس إلي اتهام المصلحين بالفساد، ودعوة الناس إلي التخلص منهم بهذه الذريعة المضحكة، كما قال الشاعر: “رمتني بدائها وانسلت”. وقد سجل القرآن الكريم ذلك في قوله سبحانه: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾(غافر:  26). ﴿وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ * قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾(الأعراف: 127 – 128).

ومن الإفرازات الرديئة للعلو في الأرض ادعاء العلم والحكمة، واحتكار الفهم والتدبير والقرار، والاستبداد الكامل؛ رغم الطيش والسفاهة والتفاهة، وخفة العقل، وضعف التفكير، وفقدان الرؤية، وفساد التدبير، فالفرعون لا يري إلا نفسه، ولا يسمع إلا صوته: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾(غافر: 29)﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾(القصص: من الآية 38). وهذه هي قمة الغرور، وجنون العظمة.

ورغم علم الملأ بحقيقة الفرعون إلا أنهم يسيرون خلفه، ويصدقونه في دعواه؛ لأنهم منتفعون من هذه الوضعية التي تجعلهم فوق الناس، وهذا الفرعون، وتلك النخبة الخائنة للمجتمع، المنحازة لمصالحها ونزواتها، يمثلون في الحقيقة أسوأ رائد لأهله، يجلب عليهم التعاسة في الدنيا والشقاء في الآخرة ﴿وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى﴾(طه: 79)﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ * يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ﴾(هود: 96 –  99).

والنظام الفرعوني نظام ضعيف هش، رغم السطوة البادية؛ لكنه يتغذي علي إثارة الخلاف بين الناس، ويعلم أن استقراره غير ممكن إلا عبر تفتيت النسيج الاجتماعي، ولذلك فهو يلجأ إلي إشاعة الكراهية، وتقسيم الناس إلي شيع متنافرة، وفي سبيل تعميق هذا الانقسام الاجتماعي يلجأ إلي اطهاد بعض فئات المجتمع وشيطنتها، واختلاق حرب وهمية في مواجهتها باسم المجتمع والحفاظ علي أمنه واستقراه: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾(القصص: 4).

وهذا العلو في الأرض بغير الحق، وما يرتبط به من رذائل فكرية، وسوآت أخلاقية، وتشوهات نفسية، وانحرافات سلوكية، هو السبب الحقيقي في سقوط الفرعون وحاشيته ونظامه القمعي الوحشي في نهاية المطاف، فهو نظام يحمل بذور فنائه في ذاته، فهو جرثومة سرطانية في المجتمع، وهو جسم غريب يقاومة الجسم حتي يلفظه في النهاية، صحيح أنه يسبب للجسم الكثير من الأسقام والآلام، ويجلب عليه الكثير من المعاناة، ولكنه لن يستقر فيه أبداً، ولابد أن يتخلص منه في النهاية.

والمهم أن يقاوم هذا الجسد حتي يستحق هذه النهاية الجيدة، وتجري عليه هذه السنة الماضية، وعلي قدر جهده تسرع إليه العافية، أما سنة الله تعالي فهي ماضية ومتحققة لا ريب، وفي كل تحد بين الفرعونية وبين الحق يتجلي هذا القانون الذي تجلي بين فرعون والسحرة: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ * فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾(يونس: 79- 82).

إن الضعيف لا يبقي ضعيفاً أبد الدهر، والنظام الفرعوني المتسلط لا تبقي قبضته الحديدية هكذا علي الدوام، ولابد أن يأتي اليوم الذي تتغير فيه موازين القوي، ما حافظ المستضعفون علي قوتهم الحقيقية المتمثلة في إيمانهم العميق بعدالة قضيتهم، وحفاظهم علي منظومة القيم المرتبطة بهذا الإيمان، والاستعداد للتضحية والنفس الطويل، حتي يأتي وعد الله، وتتحقق إرادته في الوقت الذي يختاره بحكمته البالغة وتدبيره المحكم: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾(القصص:  6). ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا﴾(الإسراء: من الآية 51).