الحج ونبي الله إبراهيم ودرس الوفاء العظيم


الحج ونبي الله إبراهيم ودرس الوفاء العظيم
بقلم: عصام تليمة
الحج فريضة الإسلام الخامسة، وقد افترضها الله عز وجل على كل مسلم قادر مستطيع، بما تحمله الاستطاعة من تفاصيل، سواء كانت بدنية، أم مالية، أم سياسية، فقد كانت الاستطاعة تقف قديما عند حدود المال والبدن، لكن الآن في ظل الظروف السياسية المختلفة، أصبحت السياسة جزءا من استطاعة الحاج لأداء الفريضة، فقد يملك المال والبدن الصحيح، ولكنه لا يملك الفيزا، أو لا يملك الأمان للدخول لبلاد الحج.
والمتأمل لهذه الفريضة، سيجد ارتباطا وثيقا بنبي الله إبراهيم، في كل تفاصيل الحج نراه عليه السلام حاضرا فيها، وكذلك أسرته، فالطواف حول الكعبة المشرفة، هو ارتباط به وابنه نبي الله إسماعيل عليهما السلام، فقد بنياها معا، يقول تعالى: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) البقرة: 127.
والسعي بين الصفا والمروة، هو تذكير بالسيدة هاجر عليها السلام، حين طافت سبعة أشواط بينهما، قلقا على رضيعها، أن يهلك جوعا وعطشا، لتعطي درسا بليغا للأمة والبشرية في الدأب والسعي في العمل لآخر رمق في الحياة، دون كلل أو ملل، ودون يأس، ولتذكر كل مسلم يسعى بنعمة الله عليه، فهو يسعى في مكان مكيف، وعلى رخام ناعم الملمس، مهيئ لكل من يسعى بكل وسائل الراحة، بينما كانت تسعى من قبل شابة في ريعان الشباب، تسعى حافية القدمين، على صخر يشق القدم، ويدمي البدن، لا يظلها من الشمس شيء، إضافة إلى لوعة القلب، وتوتر الأعصاب، خوفا من ألا تحقق مسعاها بوجود ماء لابنها، فيخلد الله عز وجل هذا المشهد، بتشريع السعي بين الصفا والمروة، لنظل دائما متذكرين هذه الأسرة الكريمة.
ورمي الجمرات، فهو تذكير للإنسان بموقف نبي الله إبراهيم، ورميه إبليس حين أراد صرفه عن تنفيذ أمر الله عز وجل، في رؤياه بذبح ابنه الوحيد إسماعيل، ويتكرر المشهد من الأسرة الكريمة، ليظل المشهد يتكرر مع المسلم، أن الإنسان بإيمانه وقوة يقينه بربه، أقوى من كل شياطين الإنس والجن، ويمكنه رجمه وصرفه عنه.
والتلبية: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)، فهي تلبية استجابة لنداء إبراهيم عليه السلام، حين أمره ربه: (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق) الحج: 27، وقد أخبره ربه سبحانه وتعالى: عليك النداء، وعلينا البلاغ، ويصل بلاغه للدنيا كلها، وتلبي دعوته وأذانه كل مسلم قادر على مدار التاريخ.
ثم مشهد الأضحية، أو الهدي، فهو تذكير بالامتحان الكبير الذي مرت به أسرة إبراهيم عليه السلام، حين رأى في المنام أنه يذبح ولده، وكيف كان موقف الابن، والأب، والأسرة كلها، ثم افتداء الله له بذبح عظيم، فهو تذكير للحاج وغير الحاج، بهذه الشعيرة، وفداء الله لإسماعيل عليه السلام، وقد كانت مكافأة على تحمله الامتحان الكبير.
كل هذه المشاهد المتمثلة في تشريعات في الحج، هي درس بليغ للمسلم، وللبشرية جمعاء، بأن الإسلام دين يدين أتباعه بالوفاء والفضل لكل من سبق، في هذه السلسلة المباركة من الأنبياء، والموكب الهائل من المؤمنين برب العالمين، وبأن رسالات السماء يكمل بعضها بعضا، ولا يقصي بعضها بعضا، يوضح ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “الأنبياء إخوة من علاَّت، وأمهاتهم شتى، ودينهم واحد”.
فليس في الإسلام هذه النظرة الإقصائية للآخر، أيا كان هذا الآخر، حين يكون صاحب مبدأ ورسالة، بل يعترف الإسلام به، وبما أتى به من خير، كما في نقل القرآن الكريم حكمة قالتها (بلقيس) ملكة سبأ، حين قال: (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة) النمل: 34، فعقب القرآن بقوله: (وكذلك يفعلون)، وهو تأكيد لحكمة قالتها امرأة تعبد الشمس من دون الله، ثم أسلمت.
فإذا كانت المبادئ والقيم في رسالة سماوية سابقة، فالتقدير لها أولى، والوفاء لها أيضا، لأن الإسلام جاء مكملا لما سبقته الأديان التي لم تحرفها يد البشر، وجاء مهيمنا بشرعه على تشريعاتها، وهو ما أكدته نصوص متوافرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يصح إيمان مؤمن إن لم يؤمن بكل رسل الله، ورسالاتهم السماوية.
الحج كشعيرة من شعائر الإسلام، مملوء بنماذج من الوفاء للأنبياء والمرسلين، ليس لنبي الله إبراهيم فقط، بل يربط المسلم بمعظم الرسل والأنبياء، وفي الوقوف بعرفة، وهي حسب إحدى الروايات عن تسميتها، بأن آدم وحواء حين هبطا للأرض، تعارفا عليها، ففي المكان ربط للمسلم بأبي البشرية، ثم ربط آخر بخاتم الرسل، محمد صلى الله عليه وسلم، بتنفيذ تعاليمه في الحج، ليكون الحج ربطا للمسلم ببداية خلق الله، وبخير خلق الله صلى الله عليه وسلم.