التتار الجدد

التتار الجدد والتاريخ المضئ للأمة

هل يعيد التاريخ نفسه؟ هل تتكرر أحداثه بنفس قوتها وعنفها وظلمها وجبروتها فتسقط الأنظمة وتظهر العمالة والخيانة وتصنع في ذات الوقت البطولات الخارقة التي لا يصدقها عقل إنسان عادي؟

هل يتكرر وتتكرر معه النتائج لتعود الأمة لمجدها وعزها وعنفوانها وريادتها للأمم كما كانت صاحبة حضارة، وصاحبة يد طولى على البشرية كلها؟

لقد مرت الأمة المسلمة بمحن شديدة كادت أن تودي بها في كل مرة لولا أن قدر الله عليها ألا تفنى، وأن يظل هذا الدين باقياً إلى قيام الساعة، ومع كل محنة إذا هي تقوم فجأة تغتسل من ضعفها وتتلمس طريقها وتبدأ من جديد لتعود أقوى مما كانت، ومن هذه الفترات المضنية في بداية القرن السابع الهجري حين اجتاحته جحافل التتار من شمال قارة آسيا بينما يواجه الحملات الصليبية شرقا في مصر والشام، اجتياحات قتل معها ليس الآلاف من المسلمين، وإنما الملايين ذبحا بدم بارد على يد تلك القبائل الهمجية التي لم تكتف بالقتل والاستيلاء على الدول الإسلامية إحداها بعد الأخرى، وإنما اجتاحت بلاد الصين وقتلت الآلاف من النصارى وحرقت كنائسهم، قتلوا النساء والرجال والأطفال الرضع بصورة جماعية، ولم يسلم منهم من سلموا لهم مفاتيح المدن بغير حروب تذكر أو أدنى مقاومة.

التفكك والتشرذم سبب الهزائم في كل زمن

في عهد الخلافة العباسية، وتحديداً في العام 603 من الهجرة وهو الوقت الذي ظهرت فيه قبائل المغول أو التتار كما يطلق عليهم تاريخياً انقسمت الأمة الإسلامية المترامية الأطراف على نفسها، فكانت الخلافة العباسية في العراق، ودولة الأيوبيين في مصر والشام والحجاز واليمن، ودولة الموحدين في المغرب والأندلس، والدولة الغورية في الهند، وسلاجقة الروم في الأناضول، والدولة الخوارزمية في قارة آسيا، وطائفة الإسماعيلية الشيعية في بلاد فارس، دولة واسعة مترامية الأطراف تعد بالملايين، إلا أنها فيما بينها البعض متحاربة، متشاكسة، يأكل الصليبيون في بنيتهم، يثيرون بينهم الخلافات ويشعلون فتيلها، ويقيمون التحالفات في غير صالح وحدتهم، غير وقوع المسلمين في فخ الدفاع عن أطراف الدولة مما زاد الضعف ضعفاً.

فالحملات الصليبية لم تتوقف، وعلى مسار آخر كانت الحروب مع البرتغاليين والأسبان في الأندلس، كل تلك العوامل زادت من وهن الدولة الكبيرة، حتى أتى التتار ليغيروا خارطة العالم وقتها، ويقلبوا الموازين، ويسقطوا أنظمة إسلامية وغربية.

نشأت دولة التتار في بداية القرن السابع عشر الهجري في منغوليا بشمال الصين على يد زعيمها ومؤسسها جنكيز خان وهو رجل دموي لا يفرق في بطشه بين رجل وامرأة، ولا بين شاب ورضيع!

اعتمد في تكوين جيشه على أعداد هائلة من البشر كلهم يحملون ذات الصفات الدموية، أثاروا الذعر في البلاد التي استولوا عليها حين قتلوا كل من تصدى لهم بوحشية، في سنوات معدودة استطاعوا أن يخترقوا حدود الدولة الإسلامية التي وهنت وتشرذمت فصارت جزرا متفرقة، كل منهم يبحث عن أمانه منفرداً ومصالحه ولو مع عدوه، فلم يرحم عدوهم مخلصاً منهم ولا خائناً.

بدأ الاجتياح للدولة الخوارزمية في الشمال عام 616 هـ، ليتم الاستيلاء على بخارى وسمرقند ونيسابور ومرو وهراة والرّي، وتحصل فيها مجازر لم تشهدها البشرية من قبل من نهب وتخريب وحرق وذبح، في عام 617 هـ توغل التتار في بلاد المسلمين وفي غضون خمس سنوات فقط استولوا على ممتلكات الدولة الخوارزمية.

دور المنافقين والعملاء في صنع الهزائم

خمس سنوات ظل هولاكو يعد جيشه، ويعد عدته لاجتياح البلاد العربية المسلمة بدءاً بعاصمة الخلافة العباسية، فعقد مجموعة تحالفات مع ملوك أرمينيا والكرج وأنطاكية، ثم عقد تحالفات أخرى مع نصارى الشام والعراق، وكذلك مع بعض أمراء المسلمين على أن يؤمنهم ولا يستولي على بلادهم، مقابل مد شبكة طرق ملائمة للإمدادات التي سوف يحتاج إليها. كما واشترى وزير الخليفة العباسي مؤيد الدين بن العلقمي الشيعي ليضمن تسليم كل من في القصر من أموال ونساء وعدم هروب أحد منهم.

أمر هولاكو باجتياح المدينة بكل عنف وبشاعة، حتى استمر القتل فيها لمدة أربعين يوما يطاردون الناس في البيوت والمساجد والطرقات، رجالاً ونساءً وأطفالاً، محاربين وغير محاربين، حتى قتل مليون مسلم في عاصمة الخلافة العباسية بغداد، كانت حرب إبادة، وليست مجرد حرب توسعية لإضافة أرض إلى الأرض، انتشرت الأوبئة في بغداد المبتلاة نظراً لوجود الجثث في الشوارع، امتد حقد التتار ووحشيتهم لمكتبة بغداد التي كانت تحوي الآلاف من المخطوطات والكتب، فحرموا الإنسانية كلها فائدة هذا العلم وألقوا به في نهر دجلة ليصير معبراً لخيولهم، وهكذا يحدث حين تضعف الأمة، ويصير أمرها بيد غيرها، وبعد تلك المذابح المرعبة وضع على كرسي الحكم بها مؤيد الدين بن العلقمي الخائن، ومن بغداد كان الأمر سهلاً، فقد انتشر الذعر في ربوع العالم الإسلامي فاجتيحت حلب ودمشق ونابلس وغزة، حتى شرع في تجهيز جيش لاجتياح مصر.

وأنه لا سبيل لمواجهته بالاستسلاموالخضوع لحكمه والرضا به، وإلا فهو الموت ذبحا كما فعل فيمن سبقوه، وتلك خطورة دور المنافقين والخائنين والخانعين، أنهم ينزعون الثقة من نفوس البسطاء، ويشعرونهم أنهم مهزومون على كل حال، فيصيب الوهن النفوس، وتغيب العزيمة، وتسقط النفوس المهيأة للسقوط، إنه الطابور الخامس الذي يمثل الخطر الأكبر على الأمة، خطر فقدان الثقة بالله أولاً، ثم تهوين شأن النفس، وهو نفس المرض الذي تعانيه أمتنا اليوم “الوهن الداخلي” أو الوهن الذاتي، هنا تعجز الأمة عن الحركة، تستخف بقدراتها، تعلي من شأن غيرها، تقف عاجزة أمام تحقيق إرادة لديها، تدفع الأفراد للانعزال، والقبول بالأمر الواقع، والرضى بالدنية والخنوع، والاستسلام، والخوف من قول كلمة الحق، وفي المجتمع يعم الفساد، ويتحارب الناس فيما بينهم دون أن يرفعوا رأسهم للنيل ممن دفعهم لما هم فيه، ولأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فكان لزاماً على الأمة أن تصنع نهضتها من بعد غفوة، وتغتسل من بلاء أصابها بضعفها وغيبتها عن سواء سبيلها.

خطورة دور المنافقين والخائنين والخانعين تتمثل بكونهم ينزعون الثقة من نفوس البسطاء، ويشعرونهم أنهم مهزومون على كل حال، فيصيب الوهن النفوس، وتغيب العزيمة، وتسقط النفوس المهيأة للسقوط

العدل والقوة أساس النصر والتمكين

لم يكتف التتار باستيلائهم على قارة آسيا -على اتساعها بما فيها دول إسلامية وغير إسلامية، عربية وغير عربية- ففكروا بالتوجه نحو مصر، وقد كانت تخنقها الانقسامات والصراعات بين المماليك بعضهم البعض، بينما يئن الشعب تحت الفقر المدقع وظلم الجنود وموت الملك وصراع الأمراء من بعده، فكانت البلاد غير مؤهلة للدخول في أية معركة جديدة خاصة بعد معركة المنصورة الشهيرة بينهم وبين الصليبيين، والتي أسر فيها قائد الحملة لويس التاسع وحبسه في دار القاضي “ابن لقمان” صعد الأمير “قطز” لحكم البلاد، فأرسل إليه قائد التتار رسالة تأمره بالاستسلام وتسليم مصر بدون حرب؛ حقناً للدماء، مزق قطز الرسالة، وتوجه للشيخ العز بن عبد السلام يستشيره في الجهاد، والذود عن البلاد ومحاربة التتار قبل قدومهم البلاد، ومطاردتهم خارج بلاد المسلمين

فكان العز بن عبد السلام ممثلاً لميزان العدالة، وتحقيقها بين الناس، فأمر بعدم فرض الضرائب على الفقراء للتجهيز للمعركة، بينما هناك أمراء خزائنهم ملأى بالمال والذهب ما يكفي للمعركة ويزيد، صودرت أموال الأمراء، وبيع البعض منهم لأجل تجهيز الجيش، بدأ قطز حكمه بالعدل والمساواة بين الناس، وجهز الجيش وحفّزه بحافز الإيمان وحب الشهادة، ثم انطلق ليلاقي العدو في عين جالوت بفلسطين في رمضان 658 هـ، وهنا توحد المسلمون وانضموا لجيش المسلمين القادم من مصر، فجاء جيش الشام من فلسطين وسوريا والعراق ليقوموا بمطاردة التتار خارج الأراضي المسلمة، ولم يسمع لهم ذكر من بعد.

كيف بالتتار الجدد!!

ليس جديداً أن يمر المسلمون بمحن يمكن أن تزيل دولاً وكيانات كبرى، وليست المرة الأولى التي تتداعى فيها الأمم عليهم، وفي كل مرة يقيّض الله -عز وجل- لهذه الأمة من يعيدها للصواب، فتنزع عنها رداء الجهل والفقر والمرض والضعف والتخلف، في أيام معدودات تعود الأمة وتنتفض لتصير أقوى، ويظهر نفاسة معدنها، وطيب أصلها وقوة منهجها، فلا يأس ولا قنوط ولا تراجع ولا استسلام لوضع هو استثنائي في حياة الأرض.

وقد استطاع المسلمون أن يزيحوا الاستعمار من بلادهم، وبقي لهم أن يزيحوا بقايا هذا الاستعمار الفكري والاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وها هي في طريقها للنهوض عبر أبنائها الذين أعلوا شأن الجهاد وثبتوا في كل بقاعها، ودفعوا حياتهم ثمناً رخيصاً في سبيل كلمة الله.

إن الأمة الإسلامية لن تعجز مع التتار الجدد، كما لم تعجز مع التتار الأوائل، واليوم شأنهم أهون بكثير؛ نظراً لانكشاف المخططات وعلانية الحروب وانتشار الوعي بين شباب المسلمين، وكذلك دروس التاريخ التي تركت لنا جبالاً من القيم الأخلاقية والدروس العملية، إن الأمة لا تنقصها العقول، فهي بها زاخرة، ولا ينقصها الإخلاص فالملايين تتسم بها، ولا تنقصها العقيدة فإنما هي باقية إلى يوم الدين، وهي -بإذن الله- في الطريق لصناعة قائدها، والالتفاف حول قضيتها المحورية، قضية الريادة والسبق وصنع الحضارة التي تنقذ البشرية جمعاء.