الإسلام وفن ادارة الأزمات

 
 
لا تخلو حياة الأمم والشعوب من الأزمات والمحن المتوالية التي تتكرر على مدى السنوات، تتوقف مواجهتها على قوة وحنكة وذكاء الأنظمة الحاكمة أثناء تلك المحن، وعلى مدى التاريخ واجهت الشعوب والحضارات محن على مستويات، منها ما أودى بحضارات كاملة، ومنها ما واجهته حتى زالت، والتاريخ الإسلامي يزخر بالكثير من المحن التي مرت بها الأمة منذ فجر الرسالة وحتى اليوم، أضعفت الأمة حيناً، وخرجت منها أشد عوداً في معظم الأحيان .

والمحن يمكن أن تكون على مستوى الفرد لاختبار إيمانه، وتقوية عوده، أو عقاباً من الله، وكذلك سنة الله في المجتمعات والدول، وما يواجه العالم اليوم من فيروس #كورونا بعد أن ضاقت البشرية بذكر ربها، ومعرفته، والركون للجانب المادي وحده، وظلم المستضعفين في كافة أرجاء الأرض، واستعلاء الباطل على الحق كان يستوجب تدخلاً سماوياً ليعيد الإنسان إلى رشده، حتى لو بفيروس لا يرى بالعين المجردة مهما كان مصدره، ليوحد بين مصير البشر، أغنياء وفقراء، أقوياء وضعفاء، حكام ومحكومين، يذكر الإنسان بضعفه، ويذكره بخالقه.

ولقد وضع الإسلام منهاجا لعلاج الأزمات ومواجهة المحن سار على هديه قادة الأمة على مدى أربعة عشر قرناً من الزمان، لم تضعف الأمة أو تنهار، ولم تتكالب عليها الأمم إلا حين تنازلت وتخلت عن ذلك المنهج، يقول الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:89].

مواجهة الأزمات الكبرى في القرآن الكريم

يقول اللّه عز وجل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155]، لقد عرض الله عز وجل “أحسن القصص” لمحن كبرى قابلت الفئة المؤمنة، منها طوفان نوح الذي أغرق الأرض، ومنها أزمة الغذاء العاصفة التي أطاحت بالجزيرة العربية والمنطقة لسبع سنوات كاملة، ومنها أزمة المسلمين في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- حين فقدوا الأمان على أنفسهم وذويهم وكادت الفئة الأولى تنتهي بالدين فكان الإذن بالهجرة، ثم أزمة الحصار الجائر للمؤمنين في المدينة من كل الجزيرة العربية كادت تودي كذلك بالأمة الوليدة، ومع ذكر كل قصة من تلك القصص المباركة وضع القرآن كيفية إدارتها ومنهجية التعامل معها بذكر العناصر الأساسية في كل إشكالية كالتالي:

1. التعريف بالمشكلة وتحديد أسبابها.
2. تحديد مظاهرها.
3. أسلوب التعامل مع الأزمة والتخطيط للحل.

ففي قصة سيدنا نوح -عليه السلام- كانت المشكلة هي عدم دخول مؤمنين جدد في الدين الجديد وكانت مظاهرها هي السخرية الشديدة من الفئة المؤمنة، العناد ورفض مجرد السماع من النبي مهما تعرض لهم صباحاً أو مساءً وأصروا على العناد والاستكبار، ليكونوا فتنة وضلالاً لمن آمن بالفعل!

وأما أسلوب التعامل فبدأ بالإنذار والنصح والتوعية والتذكير والتعليم والتنبيه، ورغم طول المدة التي لبث فيها نوح -عليه السلام- داعياً قومه إلا أنه لم ييأس، ولم يتراجع، ولم يتكاسل عن تبليغ دعوة ربه بكافة الوسائل الممكنة، لدرجة أنهم وضعوا أصابعهم في آذانهم، كي لا يسمعوه، واستغشوا ثيابهم كي لا يروه، فأخبره الله تعالى بأنه لن يؤمن منهم إلا من قد آمن دعا عليهم كي لا يكونوا فتنة للمؤمنين المستضعفين فكان عقاب الله لتواجه المؤمنين أزمة كبرى وهي العقاب الرباني الذي سيغرق الأرض بمن عليها.

وحين تكون الفتنة عامة، لا تتوقف الأسباب، وإنما يستوجب على المؤمنين بذل الجهد لينقذوا أنفسهم متوكلين على الله أن يذللها لهم.  

فالله تعالى لن يخصص لهم جبلاً للنجاة، وإنما يجب أن يتعلم المؤمنون صناعة الفلك التي تنقذهم من هلاك محتم. المؤمن المبدع المتحرك، والعدالة الإلهية المطلقة في تسيير كونه، كي تسود الأرض يجب أن تملك مفاتيح قيادتها.
وفي نموذج قرآني آخر يذكر الله -عز وجل- قصة النبي يوسف -عليه السلام- الذي كان في قوم غير مؤمنين.

المشكلة هي توقع ندرة الماء بعد سبع سنوات، وانخفاض منسوب النيل لسبع سنوات كاملة، ولأن القوم صدقوا، وحكموا فيهم العالم الأمين الصادق، ولأنهم رضخوا لتفسيره وائتمروا بأمره في وضع الحل المنطقي؛ فقد مرت الأزمة بخير برغم الضيق وغرس الناس سبع سنوات يأكلون بعضه، ويحفظون بعضه تحسباً لتلك السنوات العجاف، لا احتكاراً للسلعة، كل ما يتعلق بحياة الناس هو مسئولية الدولة بالتخزين والحفظ والتوزيع العادل والبحث عن صاحب الكفاءة والأمانة لإدارة الأزمة حتى تمر، العالم الأمين لا يفرض على المحتاجين هويته أو عقيدته كي يطعم المحتاج.

ومن الأزمات التي واجهها النبي -صلى الله عليه وسلم- في فجر الرسالة حين هددت الفئة المؤمنة القليلة بالهلاك ومن ثم هلاك الدعوة أو صد المقبلين عليها خوفاً، فانحصرت الحلول في مغادرة مكان الكفر والهروب لبلاد أفضل تستطيع تلك الفئة إنقاذ نفسها حفاظاً على الدين الذي تحمله، ولم يكن قرار الهجرة سهلاً بالنسبة لأهل مكة الذين ا
 
ستقرت بهم الحياة في مدن وبلدان بخلاف العرب الرحل الذين اعتادوا الترحال من مكان لمكان، لكن الدين أغلى من الأرض والوطن ، ولم يأت قرار الهجرة جزافاً لأي مكان تهواه أنفسهم، وإنما يتخير القائد المكان المناسب لهم فلا يخرجوا من تهلكة لتهلكة أكبر، وإنما تدرس الخريطة العالمية فيقع الاختيار على الحبشة، بها ملك لا يظلم عنده أحد، وذلك كان مطلبهم، العدل والحماية.

منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- في علاج الأزمات

بداية منذ اليوم الأول لهجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة وتوالت الأزمات على المجتمع الوليد، فكانت الأزمة الأولى هي توفير مكان السكن والطعام والشراب لأهل مكة المهاجرين تاركين خلفهم بيوتهم وأموالهم وأهليهم وتجارتهم، فآخى بين المهاجرين والأنصار بعد أن تهيأت النفوس للمنافسة على البذل والعطاء في نفس الوقت الذي تعفف فيه المهاجرون عن قبول الأموال دون مقابل من عمل وبذل جهد.

ومن نماذج فن إدارة النبي -صلى الله عليه وسلم- للأزمات ما واجهته المدينة في غزوة الخندق حين حاصرت قريش بجحافلها بالشراكة مع قبائل العرب لمدينة رسول الله، يتجلى دور القائد في استشارة جنوده في كل صغيرة وكبيرة طالما ليس هناك نص ، فيشير سلمان الفارسي بحفر الخندق حول المدينة للحول بين دخول المشركين للحرب بشكل مباشر، ثم يقسم المسلمون لعدة فرق، لأداء مهمة الحفر، ويجهز الخندق بالفعل قبل وصول جيش الكفار ليعودوا دون قتال بعد فترة حصار شديد.

وقد ظهرت براعة النبي – صلى الله عليه وسلم – في إدارة الأزمات مهما صغرت أو كبرت بعدة مراحل:

1. تحديد الهدف: إذ كيف يكون مسار البحث عن حلول إن لم يكن هناك أهداف واضحة ومحددة يجب الوصول إليها، إن تحديد الوسائل ينبني على تحديد الأهداف أولاً، وعمل بغير هدف أو غاية تستوي معه كافة النتائج، وحين تستوي الاتجاهات، فلن يكون هناك وصول.

إن تحديد الوسائل ينبني على تحديد الأهداف أولاً، وعمل بغير هدف أو غاية تستوي معه كافة النتائج، وحين تستوي الاتجاهات، فلن يكون هناك وصول

2. توفير المعلومات: وبتوافر المعلومات الدقيقة يسهل الوصول للهدف بأقصر الطرق ، فعلى سبيل المثال إذا أردت حل مشكلة كالتي تواجه العالم اليوم، كيف يمكن أن تضع قراراً لمنطقة أو دولة دون أن تعرف أولاً معلومات عن كيفية انتشار المرض، معلومات عن خطورته، معلومات عن الدول المجاورة وحجم الانتشار بها، معلومات عن طرق السلامة، معلومات عن الحالة الاقتصادية للشعب الذي تديره، معلومات عن مخزون الطعام وكم يكفي زمنياً، معلومات عن عادات الناس وتقاليدهم واستجابتهم ووعيهم، هنا يمكنك أن تتخذ قرارات بالعزل، أو بالتوعية إعلامياً، أو بحملات منزلية، أو بمنع الطيران، أو بتقديم مساعدات مالية لمجموعات من الفقراء… وهكذا.

وقد ظهر ذلك جلياً في قرار حفر الخندق بقوة الجهاز الاستخباراتي لدولة المسلمين حين قدموا المعلومات كاملة عن جيش الكفار والمسافة التي تفصلهم عن المدينة والزمن اللازم لوصولهم ومن ثم المدة التي يجب أن ينتهي فيها حفر الخندق.

3. الشورى: فالقائد المستأثر بالقرار قد ينجح لبعض الوقت، لكنه في وقت الانتكاسة سوف يتحمل النتائج وحده ، إنما القائد الفذ هو الذي يطرح الأمر للشورى، ويضع الجميع في مواجهة المسئولية ويتخير أفضل الآراء ولا يسفه من آراء جنوده أو موظفيه.

4. متابعة فريق إدارة الأزمة: وذلك دور القائد الذي أسند الأدوار لكنه لا يتركها للظروف، وإنما يعتمد مبدأ المتابعة بدقة وذلك بوضع أهداف مرحلية، فالخندق الذي يجب أن ينتهي حفره في فترة زمنية محددة كأسبوع مثلاً، يجب أن يكون قد وصل لمنتصفه في منتصف الأسبوع المحدد، وينتهي من ربعه في أول يومين من الأسبوع وهكذا، فوضع أهدافاً مرحلية للمتابعة الدقيقة ييسر الوصول إلى النتائج النهائية في وقتها، أو على الأقل بنسبة كبيرة منها.

وهكذا تزخر كتب السيرة بالمواقف المبدعة في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وسار على هداها الخلفاء الراشدون ومن خلفهم قادة الأمة التي بنت أعظم حضارة في التاريخ فبقيت مع اندثار غيرها من الحضارات، تلك الحضارات المتجددة التي تملك في رحمها القيام بعد كل كبوة لتكون الوحيدة المؤهلة لقيادة العالم وريادته وضمان بقائه بعدلها ورحمتها وركونها لشريعة سماوية لم تتغير ولم تتبدل ولم تستطع يد إنسان العبث بها، لقد أصبح لزاماً على الأمة في هذا الوقت الذي يعاني فيه العالم من فوضى ينتظر أن تزيد بشكل مخيف أن ينهض وينتفض ويظهر معدنه الذي كثر عليه الران؛ نظراً لبعده وتخليه عن دينه الذي فيه عزته، لم يعد هناك خيار أمام المسلمين اليوم إلا أن يعودوا، أو ينتهوا للأبد في زمن لا يعرف الرحمة ولا العدل، بل ويدرس التخلي عن كبار السن وتركهم بلا دواء لتتخفف الإنسانية منهم، فهل يفعلها المسلمون، أم ينتظرون مائة سنة أخرى لتأتيهم الفرصة من جديد؟