أين تذهب دعوات المظلومين

عزة مختار :


ابتلاء شديد وربما غير مسبوق ذلك الذي تمر به الأمة المسلمة اليوم ، سواء علي المستوي الفردي أو المستوي المجتمعي ، تحولت المجتمعات إلي ما يشبه الغابة في قوانينها ، القوي يعتدي علي الضعيف ، والكبير يسحق الصغير ، والمسئول لا يراعي الله في مسئوليته ، والأنظمة تنتقم من شعوبها فأصبح الموت هو الخبر الأقرب لكل الأسماع ، تساوت المظلومية فلم يعد يفرق الظالم بين رجل وامرأة ، وبين طفل أو شاب ، والجميع أصبح مستباح ، ثم نجد المستضعفين يقفون بين يدي الله مبتهلين داعين ليل نهار بنصرتهم علي الظالم ، وفي المقابل نجد أن آلة الظلم تقوي أكثر ، والمظلوم يزداد قهرا أكثر وأكثر في مشهد تصوره الآيات الكريمة في سورة الأحزاب ” إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ” ، بينما لا يجد المظلوم له وسيلة سوي الدعاء والانتظار والصبر مع الشعور المر بعدم استطاعته دفع البلاء
فأين تذهب دعوات هؤلاء المقهورين ؟ وأين نصرة الله منهم ؟ وكيف يمد الله الظالم بالمزيد من القوة التي يقهر بها غيره في الوقت الذي تنقطع كل حيل المظلوم في إيقاف الظلم أو مجرد الدفاع عن نفسه ؟
والجواب علي تلك الأسئلة يستوجب علينا أن نعرض أنفسنا أولا علي سنن التي سنها لعباده في الأرض قبل أن يجعل فيها الخليقة
يقول الله تعالي في سورة النساء ” لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ” (123) ، يقرر الله عز وجل في هذه الآية قانونا ربانيا لا يتغير محاباة لأحد من خلقه ، فالله بعدالته المطلقة لا يحابي أحدا ، وهو أن الأمور لا تسير بالأمنيات ، ولا تتبدل بمجرد الرغبات ، وإنما هي أسباب وتدافع بين الأمم ليصير الحق والباطل في صراع ممتد إلي قيام الساعة ليجعل بعض الناس فتنة لبعض ، وليجعل الضيق والشدة اختبارا لإيمان المؤمن وثباته وبذله في سبيل فكرته التي عاهد الله عليها ، وليستنفذ الباطل أسباب بقائه فلا يكون له عند الله حجة فيأخذه من حيث لا يحتسب ، فهو إذن تمحيص الله للمؤمنين ، واستدراج للظالمين ، فالله عز وجل ” يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ” البخاري ، ويقول سبحانه ” {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ” ، فالأمر مقدر أولا وأخيرا من الإرادة الإلهية المطلقة وعدالته التي تستوجب التدافع لدي البشر” وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ . مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم:42، 43].
والله الذي حرم الظلم علي نفسه فقال في الحديث القدسي «يا عبادي إني قد حرَّمتُ الظُّلمَ على نفسي، وجعلتُه محرَّمًا بينكم فلا تظَالموا» (البخاري). لا يقبل لعبادة التظالم فيما بينهم ، ولا يقبل لهم الظلم من عدوه وعدوهم
والله سبحانه كذلك قادر علي نصرة المظلوم بكلمة كن فيكون ، وقادر كذلك علي القضاء علي الظالم وجعله عبرة لمن يريد الاعتبار ، لكن أين يكون التكليف وأين اختبار صبر المؤمن إذا كان رفع الظلم بمجرد وقوعه ودون أن يبذل المظلوم أو المستضعف أدني وسيلة لإرضاء ربه بثباته علي الحق ؟ أين اختبار الإيمان وكيف يستحق الجنة من يبتلي ويدافع ويثبت ولا يلين في سبيل كلمة حق إذا كان الظلم سيرفع بمجرد وقوعه وتطاول الظالم علي محارم الله التي ينتهكها ؟
المسألة إذن لها أبعاد أخري ، فهي سنة التدافع كما مر بنا ، وسنة الاختبار ، وسنة الفعل الذي يجب أن يقدمه المؤمن قدر وسعه واستطاعته ليبلغ تلك المنزلة التي تتدخل فيها العناية الإلهية فيسقط الظالم سقطة مدوية وترتفع رايات الحق علي دماء الشهداء في سبيله والمضحين من أجله
يقول الله عز وجل ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) ولقاء المؤمنين لأي فئة غير مؤمنة يتخذ أشكالا كثيرة ليس فقط مواطن الحروب وأرض المعارك ، وإنما قد يكون لقاء المؤمن بالمستبد كما كانت فتنة الإمام أحمد بن حنبل والتي سميت بمحنة خلق القرآن ، وتاريخ المسلمين يشهد بمثل تلك الالتقاءات بين مؤمنين جاهروا بكلمة حق في وجه سلاطين الاستبداد ، وهنا يوجهنا الله لطريق الذي يقف الوقوف عليه ، وأوله الثبات
ووقت المحن تختلط الرؤي ويتساءل الخلق ، هل نحن علي الحق ؟ هل هذا هو الطريق ؟ أليس الله بقادر علي نصرة جنده ؟ فلم يجعل للظالمين علي المؤمنين سبيلا ؟ ومن هنا يحدث السقوط ويهلك البعض ، فالثبات علي الحق هي أول طريق النصر ، الثبات علي الفكرة الإيمانية التي تستدعي التضحيات بكل غال ونفيس
فهل يكفي الثبات وحده والانتظار واتخاذ الحيطة والتسلح بالإعدادات اللازمة ؟ يأتي الجواب الرباني : وأذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ، فالثبات علي الفكرة التي تستحق التضحية يلازمه ذكر وعبادة ودعاء واستغراق في عبادة تقوي المؤمن علي استكمال الطريق الشاق
أما سقوط الظالمين فهو أمر حتمي ، وإن هي إلا مسألة وقت يقدرها الله عز وجل لإعداد الفئة المؤمنة التي تقوم علي أمر الرسالة وتبعات النصر والتمكين ، وهي فترة تربية وتمحيص يمر بها المستضعفون المكلفون بتبليغ رسالة الله ليسقط الظالم وينتصر الحق
وهناك إشكالية أخري قد نراها في وقتنا الحاضر ، ماذا إذا استفحل الباطل ولم يستكمل الحق أدواته ؟ في هذه قد يسقط الله الطغاة بطغاة آخرين حتى يستكمل المؤمنون أدواتهم استحقاقهم للنصر المنشود ، هذا إذا بلغ الظلم مبلغا تفسد معه الأرض وتكثر معه الدماء وتنتشر الفوضى ، وفي كل الحالات يجب علي المؤمن أن يعلم أن الثبات واجب ، والاستمساك بعروة الله الوثقي واجبة لتجاوز مرحلة الابتلاء وتحمل تبعات التمكين .
فدعاء المستضعفين عند الله لا يضيع ، وإنما هو وسيلة من ضمن وسائل عديدة لتجاوز الاختبار الصعب ، اختبار إعلاء كلمة الله في الأرض .