أولويات الحركة الإسلامية

د. يوسف القرضاوي

الفرق بين الحركة والصحوة أن الحركة تعبّر عن جماعة أو جماعات منظمة، ذات أهداف محددة، ومناهج مرسومة. أما الصحوة فهي تيار عام دافق يشمل الأفراد و!لجماعات، المنظم وغير المنظم فبينهما – يقول علماء المنطق – عموم وخصوص مطلقفكل حركة صحوة، وليست كل صحوة حركة، والصحوة إذن أوسع دائرة من الحركة، وأكثر امتداداوهكذا ينبغي أن تكون. والصحوة مدد ورافد للحركة وسند لها، والحركة دليل وموجه للصحوة، كل منهما يؤثر ويتأثر بالآخر ويتفاعل معه.
وأود أن أشير هنا إلى أمر مهموهو أني أريد بالحركة الإسلامية الحركة بمعناها العام، ولا أقصد حركة معينة، وإن كان أكثر تمثيلي بحركة الإخوان المسلمين، لأنها الحركة التي نشأت فيها، وعشت محنها ومنحها، وخبرت الكثير من أحوالها.

ماهي مَهمة الحركة الإسلامية؟
إن الحركة الإسلامية إنما قامت لتجديد الإسلام والعودة به إلى قيادة الحياة من جديد، بعد إزالة العقبات من الطريق.
و(تجديد الإسلام) ليس تعبيرا من عندي. إنه تعبير نبوي نطق به الحديث الذي رواه أبو داود والحاكم بإسناد صحيح عن أبي هريرة أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها).
ولقد كان اتجاه أغلب شرّاح هذا الحديث إلى أن كلمة “من” فيه تعني “فردا” واحدا معيناً يقوم بتجديد الدين، وحاولوا بالفعل تعيينه في الغالب من العلماء والأئمة الأعلام ممن تكون وفاته قريبة من رأس قرن مضى، مثل عمر بن عبد العزيز في القرن الأول (ت :105هـ) والشافعي في القرن الثاني (ت :204هـ) ثم اختلفوا كثيراً في مجدد المئة الثالثة وهكذا.
بيد أن بعضهم نظر إلى أن “من” في الحديث تصلح للجمع كما تصلح للفرد، فيجوز أن يكون المجدد جماعة لا واحدا. وهذا ما رجحه ابن الأثير في كتابه «جامع الأصول » والحافظ الذهبي وغيرهما..
وأزيد على هذا أمراً أخر فأقول: ليس من الضروري أن يكون المجدد جماعة بمعنى عدد من الأفراد هم فلان وفلان وفلان … بل جماعة بمعنى مدرسة وحركة فكرية وعملية تقوم بتجديد الدين متضامنة.
وهذا ما أرجحه في فهم هذا الحديث الشريف، وتطبيقه على قرننا هذا الذي ودعناه لنسقبل قرناً جديداً، نسأل الله أن يجعل يومنا فيه خيراً من أمسنا، وغدنا خيراً من يومنا.

بماذا يكون التجديد المنشود؟
والتجديد الذي يجب أن تقوم به الحركة الإسلامية ينبغي أن يتجسد في ثلاثة أمور:
الأولتكوين طليعة إسلامية، قادرة -بالتكامل والتعاون– على قيادة المجتمع المعاصر بالإسلام، دون تقوقع ولا تحلل، وعلى علاج أدواء المسلمين من صيدلية الإسلام نفسه، طليعة يجمع بين أفرادها الإيمان العميق، والفقه الدقيق، والترابط الوثيق.

والثانيتكوين رأي عام إسلامي يمثل القاعد ة الجماهيرية العريضة التي تقف وراء الدعاة إلى الإسلام، تحبهم وتساندهم، وتشد أزرهم, بعد أن وعت مجمل أهدافهم، ووثقت بإخلاصهم وقدرتهم، ونفضت عنها غبار التشويش والتشويه للإسلام ورجاله وحركاته.

والثالثتهيئة مناخ عام عالمي كذلك يتقبل وجود الأمة الإسلامية، حين يفهم حقيقة الرسالة الإسلامية، والحضارة الإسلامية، ويحررها من العقد الخبيثة، التي تركها تعصب القرون الوسطى في أعماق نفسه، ومن الأباطيل التي خلفها الكذب والتشويه في أم رأسه، رأي عام يفسح صدره لظهور القوة الإسلامية بجوار القوى العالمية الأخرى، مدركا أن من حق المسلمين أن يحكموا أنفسهم وفق عقيدتهم، باعتبارهم أغلبية في بلادهم، كما تنادي بذلك مبادئهم الديمقراطية التي يتغنون بها, وأن من حقهم أن يدعوا إلى رسالتهم الإنسانية العالمية، باعتبارها إحدى الإيديولوجيات الكبرى في العالم التي لها ماض وحاضر ومستقبل، ويدين بها ألفا مليون في دنيانا التي نعيش فيها.

أولويات الحركة الإسلامية

تعدد مجالات العمل:
إن مجالات العمل أمام الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة, مجالات رحبة فسيحة، وعلى قادة الحركة العمليين، ومنظريها الفكريينأن يدرسوا هذه المجالات بأناة دراسة علمية قائمة على الإحصاءات والبيانات الموثقة والمؤكدة .

هناك مجال العمل التربوي.
لتكوين (الإطارات ) البشرية، والطلائع الإسلاميةوتربية جيل النصر المنشود من الذين يفهمون الإسلام ويؤمنون به كله: علماً وعملاً ودعوة وجهاداً ويحملون دعوة الإسلام إلى أمتهم أولا، وإلى العالم بعد ذلكبعد أن التزموا به: فكرة واضحة في رؤوسهم, وعقيدة راسخة في قلوبهم, وخلقًا يوجه كل حياتهم، وعبادة مع الله وتعاملاً مع الناس، ومنهاجاً حضارياً ينهض بالأمة، ويوحدها على كلمة الله, ويهدي الإنسانية الحائرة للتي هي أقوم.

وهناك العمل السياسي:

لاستخلاص الحكم من أيدي الضعفاء والخزنة ليوضع في أيدي الأقوياء الأمناء الذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداًوالذين إن مكنهم الله في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر.

وهناك العمل الاجتماعي:
للإسهام في علاج الفقر والجهل والمرض والرذيلة, والوقوف في وجه المؤسسات المشبوهة التي تجعل من العمل الاجتماعي والخيري أداة لتغيير هوية الأمة وارتباطها بعقيدتها.

وهناك العمل الاقتصادي:

للمشاركة في تنمية المجتمع, وتخليصه من التبعية والغرق ني الديون الربويّة والعمل لإيجاد مؤسسات اقتصادية إسلامية.

وهناك العمل الجهادي:
تحرير الأرض الإسلامية، ومقاومة القوى المعادية للدعوة الإسلامية والأمة الإسلامية والمحافظة على حرية الإرادة الإسلامية، واستقلال القرار الإسلامي

وهناك العمل الدعوي والإعلامي:
لنشر الفكرة الإسلامية وشرح تعاليم الإسلام شرحاً يردها إلى وسطيتها وشمولها, وإزاحة الغموض, ورد الشبهات والمفتريات عنها, بالكلمة المقروءة والمسموعة والمرئية, وبكل الوسائل السمعية والبصرية المعينة.

وهناك العمل الفكري والعلمي:
لتصحيح التصوّر عن الإسلام عند المسلمين وغير المسلمينوتصحيح المفاهيم المغلوطة والفتاوى القاصرة التي شاعت عند فصائل من الإسلاميين أنفسهم وإيجاد فقه ناضج بصير للحركة الإسلامية, قائم على تأصيل شرعي مستمد من نصوص الشريعة ومقاصدها, وخصوصاً لدى النخبة من المثقفين المسلمين الذين لم يتح لهم أن يعرفوا الإسلام معرفة صحيحة .

توزيع القوى على مجالات العمل:
ورأيي أن هذه المجالات كلها مطلوبة, ولا ينبغي أن يهمل جانب منها, أو يؤجل، وإنما الواجب هو توزيع القوى والكفايات على كل منها, وفق حاجات هذه المجالات من ناحية, ووفق ما عندنا من قدرات من ناحية أخرى.
والقرآن الكريم أنكر على المسلمين في عهد النبوة أن يتوجهوا جميعا إلى ساحة الجهاد- وما أقدسها من ساحة !- مغفلين ساحة أخرى لا تقل قداسة عن الجهاد, وربما زادت عليه في بعض الأحيان, لأنها هي التي تهيء له وتذكر به وتحذر من إضاعته وهي ساحة التفقه في الدين.
يقول الله تعالى في سورة التوبة وهي السورة التي نددت بالمتخلفين عن الجهاد وأنذرت المتثاقلين بأبلغ النذر(وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) (سورة التوبة : 22ا ) .
فهذه دعوة قوية إلى التخصص، وتوزيع القوى على مجالات الحاجة.

ما ينبغي التركيز والبدء به:
ولكن الذي ينبغي أن تركز عليه الحركة هنا عدة أمور لها أهميتها الخاصة في المرحلة القادمة في ضوء (فقه الأولويات) المشار إليه.

التركيز على مفاهيم معينة يجب تجليتها وتعميمها وتعميقها في المجال الفكري وهو ما أسميناه (الفقه الجديد).

التركيز على شرائح اجتماعية معينة يجب أن تمتد إليها الحركة، وتشملها الصحوة وذلك في المجال الدعوي.

التركيز على مستوى كيفي معين من إعداد القيادات المرجوّة للمستقبل، ولا سيما الإعداد الإيماني والفكري، وذلك في المجال التربوي.

التركيز على تطوير الأفكار والممارسات فيما يتصل بالعلاقات السياسية المحلية والعالمية خروجا من التقوقع الداخلي، والحصار الخارجي، وتحقيقاً لعالمية الحركة ومرونتها، وذلك في المجال السياسي.

إن المجال الأول في رأيي هو مجال الفكر, فهو الأساس للبناء الدعوي والبناء التربوي. الذي يبدو لي أن أزمتنا الأولى أزمة فكرية، هناك خلل واضح في فهم كثيرين للإسلام, وقصور واضح في الوعي بتعاليمه، ومراتبه، وأيها الأهم وأيها المهم، وأيها غير المهم؟. هناك عجز في المعرفة بالحاضر المعيش، والواقع المعاصر.
هناك جهل بالآخرين، نقع فيه بين التهويل والتهوين، مع أن الآخرين يعرفون عنا كل شيء، وقد كشفونا حتى النخاع !
بل هناك جهل بأنفسنا، فنحن إلى اليوم لا نعرف حقيقة مواطن القوة فينا، ولا نقاط الضعف لدينا، وكثيرا ما نضخم الشيء الهيّن، وما نهون الشيء العظيم، سواء في إمكاناتنا، أو في عيوبنا .
وهذا الجهل لا يقتصر على الجماهير المسلمة، بل يشمل الطليعة المرجّوة لنصرة الإسلام، والتي تمثل الركائز التي يقوم عليها العمل الإسلامي المنشود .

حاجتنا إلى فقه جديد
الحق أننا في حاجة إلى فقه جديد،،نستحق به أن نكون ممن وصفهم الله بأنهم (قوم يفقهون). فليس مرادنا بالفقه : العلم المعروف الذي اصطلح على تسميته (فقهاً) والذي يعني: معرفة الأحكام الشرعية الجزئية من أدلتها التفصيلية، من مثل أحكام الطهارة والنجاسة والعبادات والمعاملات وأحكام الزواج والطلاق والرضاع وغيرها . . .
فهذا العلم _ على أهميته _ ليس هو مرادنا بالفقه، وليس هو المراد بكلمة (الفقه)حيث ورد في القرآن والحديث، وإنما هي مما بدّل من الأسامي والمفاهيم, كما بيّن ذلك الإمام الغزالي في كتاب (العلم) من موسوعته المعروفة (إحياء علوم الدين).

إن القرآن ذكر مادة (ف ق هـ) في سوره المكية قبل أن تنزل الأوامر والنواهي التشريعية التفصيلية، وقبل أن تفرض الفرائض، وتحد الحدود، وتفصل الأحكام. إقرأ قوله تعالى في سورة الأنعام, ومكية: ( قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أومن تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض, نظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون) (الأنعام: 65) واقرأفي السورة نفسها: (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة، فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون) (الأنعام: 98). والفقه في الآيتين معناه: المعرفة البصيرة بسنن الله في الأنفس والآفاق وسنن الله في خلقه, وعقوباته لمن انحرف عن صراطه.
واقرأ في سورة الأعراف _وهي مكية_ قوله تعالى في ذم قوم جعلهم حطب جهنم فكان من وصفه لهم بأنهم ( لهم قلوب لا يفقهون بها) ثم قال عنهم: (أولئك كالأنعام بل هم أضل) واقرأ في أكثر من سورة موقف المشركين من القرآن, وقد عبّر الله عنه بقوله: (وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا) (الأنعام : 25، والإسراء, : 46, والكهف : 57).أما في القرآن المدني فقد تكررت المادة في عدد من السور كلها تنفي (الفقه) عن المشركين والمنافقين. ففي سورة الأنفال يخاطب الله رسوله والمؤمنين بقوله:(إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين, وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون) (الأنفال : 65).
فنفي الفقه عن المشركين المحاربين هنا, يراد به الفقه في سنن الله في النصر والهزيمة, ومداولة الأيام بين الناس.

وفي سورة التوبة ذم الله المنافقين بقوله: (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون و) (التوبة : 87). فالفقه المنفي هنا هو الفقه في ضرورة الجهاد والبذل لحماية الدين والنفس والعرض, وكيان الجماعة, وأنه مقدم على أية مصلحة فردية عاجلة أخرى.
وفي نفس السورة وصف بهذا الضعف بقوله تعالى:( وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض: هل يراكم من أحد؟ ثم انصرفوا, صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون) (التوبة :127). فقد غاب عن هؤلاء المطموسين أن الله يراهم قبل رؤية الناس, ولكنهم فقدوا الفقه والفهم حقا. وفي سورة الحشر يتحدث عن المنافقين مخاطباً المؤمنين :(لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله, ذلك بأنهم قوم لا يفقهون) (الحشر: 13).
وفي سورة المنافقون قال تعالى . (ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع الله على قلوبهم, فهم لا يفقهون) (المنافقون : 3).
وفي السورة نفسها 🙁 وهم الذين يقولون : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا, ولله خزائن السموات والأرض , ولكن المنافقين لا يفقهون) (المنافقين: 3).
وفي السورة نفسها: (وهم الذين يقولون: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا، ولله خزائن السموات والأرض، ولكن المنافقين لا يفقهون) (المنافقين:7).
وبهذا كان لأهل النفاق حصة الأسد من هذا الوصف القرآني بأنهم (لا يفقهون). ذلك لأن المنافقين يتوهمون أنهم أذكياء، وأنهم استطاعوا أن يلعبوا على الحبلين، ويعيشوا بوجهين، وأنهم خادعوا الله والذين آمنوا، فإذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا وإذا خلو إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم.
ولكن الله تعالى هتك سترهم، وفضح ذبذبتهم، وكشف خداعهم في آيات كثيرة: ( يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون) (البقرة : 9) .
المهم أنهم فضحوا عند الله وعند الناس، وخسروا الدنيا والآخرة، وحق عليهم أنهم في الدرك الأسفل من النار، فأي غباء أكبر من هذا الغباء؟ ولا ريب أن من كان هذا وصفه ليس عنده شيء من الفقه .

الخلاصة
أن الفقه في لغة القرآن ليس هو الفقه الاصطلاحي، بل هو فقه في آيات الله وفي سننه في الكون والحياة والمجتمع . حتى التفقه في الدين الذي ورد في سورة التوبة ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين, ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) (التوبة :122).
لا يقصد به الفقه التقليدي: فإن الفقه لا يثمر إنذاراً يترتب عليه حذر أو خشية، بل هو أبعد شيء عن أداء هذه الوظيفة، التي هي وظيفة الدعوة.
ومثله قوله -صلى الله عليه وسلم-” ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين”. والمعنى أن ينير الله بصيرته فيتعمق في فهم حقائق الدين وأسراره ومقاصده ولا يقف عند ألفاظه وظواهره.

منقول بتصرف –من كتاب أولويات الحركة الإسلامية لفضيلة الشيخ