بواسطة عامر شماخ
لم يعد خافيًا أن هذا النظام فى سباق لتجريف “المحروسة” وإنهاكها، كما لم يعد خافيًا انهياره وفشله وانكشاف سوءته. من أجل ذلك فإننا لا نفاجأ بجرائمه التى يصدِّرها إلينا كل يوم، وإذا كان ثمة فئة من المصريين تستغرب هذه الأفعال فلأنها لا زالت على سذاجتها التى جعلتها يومًا تساند هذا النظام الدموى الغشوم.
جريمتان ارتكبهما النظام فى توقيت واحد غير آبه لشعب يزيد تعداده على المائة مليون ولا لتاريخ تتنافس الأمم فى حفظه وصيانته؛ معتمدًا على السلاح الذى يحمله والإرهاب الذى يمارسه. الجريمة الأولى هى هدم “مقابر المماليك” التاريخية، أو ما يُعرف بـ”القرافة” التى تعود لخمسة قرون مضت، وتضم تحفًا معمارية ومساجد أثرية؛ بحجة شق طريق لما أسموه “محور الفردوس”؛ كأن المساجد والآثار الإسلامية هى العقبة الدائمة أمام طرقهم ومحاورهم، وكأنه لا توجد بدائل لهذا الهدم، وماذا لو كانت هذه الآثار يهودية أو نصرانية، هل كانت ستُخدش ولا نقول تُهدم؟ إننا لو نظرنا إلى هذه الحادثة وإلى مذبحة المساجد على ترعة “المحمودية” بالإسكندرية والتى هُدم خلالها عشرات المساجد بحجة إنشاء محور آخر لتأكدنا أن تلك جريمة عمد تستهدف دور عبادة المسلمين وآثارهم، عكس ما يجرى لآثار وكنائس ومعابد الطائفتين الأخريين والتى تحظى بالرعاية والاهتمام ولا يتوانون أبدًا عن ترميمها وتكثير أعدادها.
أما الجريمة الأخرى؛ فهى ما يُعرف بـ”قانون التصالح فى المبانى”، ولا يخفى أنه طريقة جديدة من طرق الجباية التى يسلكها النظام لسد العجز المالى الذى يعانى منه، وقد تراكمت عليه الديون ولم يعد له مقدرة على الإنتاج والتنمية، فصار يضع يده فى جيوب المواطنين كل يوم بحجج مختلفة. فإن جميع المخالفات، من دون استثناء، يتحمل تبعتها مهندسو الأحياء وموظفو الوحدات المحلية ومسئولو مجالس القرى والمدن، الذين سمحوا بها ولم يتخذوا إجراءات الإزالة أو وقف الترخيص فى حينها.
وإذا كان النظام قد أعلن أنه سوف يحصِّل (200) مليار حصيلة تطبيق هذا القانون؛ فإنه أراد أيضًا أن يبعث برسالة مفادها “نحن دولة قوية”، للإيحاء بهيبة الدولة التى صارت منتقصة، تلحظ ذلك فى جدية التنفيذ وفى الإرهاب والعنف أثناءه، مع عدم النظر إلى قانونيته وآثاره المجتمعية الخطيرة، وقد رأينا العديد من الحالات التى هُدمت بيوتها ملتاعة تصرخ من الظلم، كالرجل الذى قضى عمره فى إحدى دول الخليج ووضع كل ما يملك فى منزل له ولأولاده ثم صدر الأمر بالهدم فهُدم. أين كان المسئولون عندما وضعت الأساسات، وعندما تمت التعلية، وكيف حصل الرجل على عدادات الكهرباء والغاز والمياه؟
لقد أقمتُ نحو ثلاثين سنة فى منطقة فيصل بالجيزة، وكنت شاهدًا على هذا الفساد الرسمى الذى يدفع ضريبته الآن المواطن المطحون.. شاهدت عشرات القرى على يمين ويسار المنطقة وقد اكتست بالخضرة، ثم شاهدتها لوحة قبيحة تملؤها الأبراج الإسمنتية، حتى صارت –فى ظنى- أكبر بؤرة عشوائية فى العالم. كان يأتى “الإخوة الصعايدة” فيشترون قطعة الأرض الزراعية، ثم يحصلون على ترخيص “البدروم والأول”، ثم بالاتفاق مع مهندس الحى يعلون بالمبنى (12) دورًا رغم أن الترخيص بـ(4) أدوار فقط، وللمهندس ورجاله “شقة” بالطبع فى أحد الأدوار الوسطى المتميزة، وهكذا صار “البرج” أمرًا واقعًا، بل قد تم شغله بعشرات السكان. تخيل منطقة تزيد مساحتها على (11) كيلو مترًا مربعًا كانت من أخصب أراضى الجمهورية، تم البناء عليها بمعرفة الجهات الرسمية، وفى حين تم “ترييف” عشرات القرى مثل صفط اللبن والكونيسة وكفر طهرمس وغيرها كانت الصحراء الشاسعة لا تبعد سوى خمسة كيلومترات عن هذه الأرض التى قدرت بنحو مليون فدان. وقسْ على ذلك باقى الأحياء والمحافظات.
مَنْ الجانى إذًا؟ ومن الذى سمح بتجريف أرض الدلتا التى لا تُعوض؟ ومن الذى أسس للعشوائيات؟ ومن الذى قنن الفساد؟ وهنا نتكلم عن صورة واحدة من صور هذا الفساد وهى ما يُعرف بـ”الْكَحُوُل” وهو فرد مُستأجر “وسيط” بين صاحب المبنى والجهات الرسمية، يحصل على توكيل من المالك لتشهيل عمليات الترخيص والبناء بطرقه الملتوية. هذا “الكحول” هو المسئول رسميًّا أمام الدولة، لكن مهمته انتهت بانتهاء التعامل مع الحى وغيره. فهل يتحمل ما وقع من مخالفات، وهو بالمناسبة قد فعل هذا مع عشرات الملاك؟ أم يتحملها المالك الذى لم يرد اسمه فى أوراق، بل باع الشقق وانصرف إلى برج آخر؟ أم يتحملها صاحب الشقة المسكين الذى لم يكمل أقساطها؟
هذه ألغام زرعها العسكر على مدى عقود، والآن يحمِّلون الشعب نتائجها، ليس بدافع الإصلاح والحرب على الفساد كما يدّعون.. إنما لسرقة المواطن، ولتأكيد فكرة “دولة الخوف” التى تحصِّن لهم الكراسى، وتضمن لهم البقاء فى السلطة لأطول فترة ممكنة. حسبنا الله.