يقف المنظرون اليوم في حالة من الحيرة أمام ممارسات النظام الانقلابي المصري التي تعدت كل الخطوط المعروفة في التعامل مع الشعوب والتنكيل بها لا لشئ إلا لتنفيذ أجندات عمالة وفساد لم تشهدها البلاد من قبل
وبينما يغلي الشعب غضبا من وقع الضربات المتتالية في توقيتات يختارها النظام بدقة ، وإجراءات تكاد تختفي معها الطبقة الوسطي من المجتمع ليتحول في مجمله لمجتمع فقير معدم عاجز ، نجد من يبحث عن قيادة ثورية ، ووجه جديد يستطيع أن يجمع الشعب حوله فينفخ فيه روح الثورة تحت قيادته الرشيدة ، ونجد آخرين يطالبون الشعب بالتحرك ليقرر مصيره بنفسه ويحرر ذاته بذاته في اعتقاد أن الحراك الثوري والذي قد يدخل حالة الفوضى في بعض مراحله سوف يفرز ذلك القائد حتما ، وأنه يستطيع وقتها أن ينظم الصفوف ويوحد الكلمة في مواجهة ذلك النظام الدموي الغاشم والشعب من خلفه .
نار تحت الرماد
في فترة تتسم بالغضب المتنامي والذي أخذ في التعبير عن ذاته عبر وسائل التواصل الاجتماعي بدءا بحالة من الرفض الهامس جراء ممارسات النظام الوحشية والجريئة تجاه شعبه ، يصر هذا النظام علي السير بقوة في اتجاه تجريف البلاد وكسر العباد في سابقة لم يستطع منافسته عليها أشد عتاة الإجرام والمستعمرين لتلك البلاد ، وفي الوقت الذي تتمتع فيه مصر بثلث آثار العالم ، وتطل علي بحرين ، تنعم تربتها بالخصوبة ونيل يجري بطولها علي مدي آلاف السنين ، وكنوز مخبأة في صحرائها ووديانها ، وثروة بشرية لا يحظي بها غيرها في المنطقة ، يقع أكثر من 64% من الشعب تحت خط الفقر ، وتتسول البلاد لقمتها يوما بيوم ، وتنفذ شروط صندوق النقد الدولي بكل دقة عدا ما يخص تخفيض الإنفاق الحكومي ، ويتم التعاقد علي قطار لا يخدم إلا طبقة محدودة في البلاد بمبلغ 360 مليار جنيه في الوقت الذي تحتاج فيه البلاد لأبسط الاحتياجات الصحية من اسطوانة الأكسجين إلي لقاح الكورونا في ظل جائحة عالمية ضاعفت عدد الفقراء في البلاد ، علاوة علي مصانع يتم بيعها وتشريد آلاف الأسر علي إثرها ، وفي الوقت الذي لا يكاد أكثر من نصف الشعب المصري يجد قوت يومه ، وتبدأ النيران المكنونة تحت الرماد في صعود لهيبها ، وينضم لقافلة الرافضين للحكم الانقلابي ملايين من الفئات المتوسطة والدنيا في المجتمع ، بل ويفقد النظام معظم مؤيديه ممن مثلوا أركانا قوية للإنقلاب في بدايته ، وتمتد نيران الغضب في طول البلاد وعرضها بعدما استحالت الحياة في مصر اقتصاديا ، وعجز المواطن في بلده عن إكمال احتياجات يومه ، وفي الوقت الذي يزداد فيه الفرق بين الطبقتين الحاكمة والمحكومة لهوة سحيقة ، وتقف مصر علي أعتاب ثورة عارمة في انتظار من يشعل فتيلها ، أدرك الشعب أن الزعامة تقاس بالانجازات لا بالشعارات والخطابات العاطفية ، وأن وقت الحساب قد آن أوانه بعدما آلت كل الأمور للتدهور في البلاد
25 يناير ثورة شعبية بامتياز
ويقف العالم اليوم متابعا مصر التي تنتظر قائدا يأخذ بيدها لانتزاع حريتها وقد تأهلت تماما لتلك اللحظة بينما كل المؤشرات تؤكد أن كافة الإجراءات التي يتخذها النظام لا هدف لها إلا القضاء علي تلك البلاد وانتزاعها من هويتها وتسليمها منزوعة الحضارة في صفقات مشبوهة يتم فيها التنازل عن الجزر والأرض المصرية بغير ثمن ، وبعد مرور ما يقرب من سبع سنوات هي فترة حكم السيسي ينتبه المواطن البسيط علي مصائب لا يدفع ثمنها سواه من قوته وقوت أبنائه وصحتهم وتعليمهم ومستقبلهم الذي يزداد ظلمة يوما بعد يوم ، يتابع العالم ويترقب تلك الأحداث السريعة في انتظار ردة فعل الشعب المصري الذي انتفض فجأة في ثورة الخامس والعشرين من يناير والتي لم يتوقعها أحد ، ولم تتنبأ بها أيا من مراكز البحث السياسية ، وينجح الشعب رغم عدم وجود قيادة موجهة للثورة في إزاحة رأس النظام المصري ( حسني مبارك ) ، وبصرف النظر عن وجود مؤامرة من الجيش للخلاص من مبارك الابن واستغلال الشعب في ذلك من عدمه ، إلا أن حاجزا كبيرا من الخوف الذي فرضه النظام العسكري الذي يحكم مصر منذ بداية خمسينيات القرن الماضي قد كسره الشعب وتخطاه ، ووقف أمام الدبابات وسلاح الشرطة بصدر عار ، بل استطاع الشعب بنفسه دون قيادة تذكر أن يتخطي حالة الفوضى التي أرادوه أن يقع فيها حين تخلي الجهاز الأمني عن حماية البلاد وقت الثورة ، ونظمت ما يسمي " باللجان الأمنية في كل شارع وفي كل حي وعلي الطرق العامة حتى تجاوزت مصر أزمتها وعبرت مرحلة ما بعد مبارك في سلام رغم لعب جهاز المخابرات علي وتر الأمن لتأديب الشعب الذي طالب بإسقاط الحاكم ورفض التوريث للمرة الأولي منذ يوليو 52 ، وفي نفس الوقت ولضحالة الثقافة السياسية للشعب بكافة فئاته التي شاركت في صنع الثورة انسحب الثوار من الميادين قبل اكتمال ثورتهم ، ولعدم وجود قائد فعلي يتحدث باسمهم أو يوجههم ، نفذ المجلس العسكري الحاكم الفعلي للبلاد مخططه بدقة ، فبث نير الخلاف بين الثوار ، وتمزقت الفكرة الثورية بين المختلفين أيديولوجيا ،وربما كان ذلك هو السبب الرئيسي في عدم إفراز الثورة لقائد حقيقي يستطيع أن يفرض الوحدة علي الثوار في مطالب محددة وموحدة ، هذا بالطبع غير المؤامرات التي حيكت لكافة ثورات الربيع العربي من الخارج وداخل العرب أنفسهم ، وكم الأموال التي أنفقت في سبيل القضاء عليها في مهدها خوفا من انتشارها في أروقة الأنظمة العربية ، ورغم أن معظم ثورات التاريخ تصنع قادتها ، إلا أن الموجة الأولي من الثورة المصرية فشلت بامتياز في ذلك لتنتهي ببحر من الدماء في رابعة ومن قبلها ماسبيرو ومحمد محمود وما بعدها في مسيرات رفض الانقلاب وكأن الثورة تنتقم من نفسها في شخوص أصحابها
العالم في انتظار مصر
وفي الوقت الذي ينتظر فيه المصريون القائد المخلص الذي يقود الجميع لثورة عارمة ويواجه النظام بجماهير غاضبة ، يقف العالم منتظرا مصر ماذا هي فاعلة في ظل تلك الظروف الأليمة والتي لا تشبهها فترة تاريخية معروفة مع كل المعطيات التي تدفع الشعب دفعا للثورة وانتزاع حقه ، لقد أصبح واجبا علي الشعب المصري أن يدرك
أولا : أن انتظار القائد الملهم لم يعد في صالحه ، وأن سرعة الأحداث والممارسات الكارثية مخيف ، فلم يعد هناك وقت للتأجيل في إطفاء حرائق الوطن
ثانيا : أري أن انتشار الوعي في المجتمع أفضل كثيرا من خمس سنوات مضت ، وأن الشعب أصبح مؤهلا ومدفوعا لموجة ثورية جديدة في ظل حالة وعي وخبرة ثورية قد تقيه من الوقوع مرة أخري في أخطاء الموجة الأولي ، فلا انخداع بالعسكر مرة أخري ، ولا وقوع في فخ الفرقة من جديد
ثالثا : لقد أدركت النخبة الثورية ولو نظريا وعلي رأسها حركة الإخوان المسلمين أن الشعب إن لم يكن مساندا لأي حراك فهو حراك محكوم عليه بالفشل ، فلن تستطيع فئة وحدها مهما بلغت قوة تنظيمها أن تنفرد بتحرير البلاد أو تنوب عن الشعب في مهمته في انتزاع حريته
رابعا : يجب علي الشعب أن يدرك أن الثورات يمكنها أن تصنع القادة ، وأن الحراك مدرسة يتعلم فيها الجميع بعد أن احتكرت الأنظمة المتوالية ممارسة السياسة علي ذاتها ، وأوقعت الشعب بكل فئاته في الجهل السياسي فضلا عن الجهل في العلوم الأخرى ، إن حتمية ظهور القائد الذي يتحدث باسم الثورة أكيدة بعد تلك الدروس التي تلقاها الشعب علي يد نظام أتي ليهدم لا ليبني ، ويفسد لا ليقضي علي الفساد ، فهل يعي الشعب ويبدأ في التحرك قبل أن ينهكه الجوع والمرض فلا يستطيع حراكا ؟ ظني أنه قادر علي فعلها ، والأيام المقبلة ستسفر عن نتائج قد تدهشنا جميعا .