ومضات نبوية

هي ليلة من حياة الرسول مرت هادئة رخية كما تمر كثير من ليالي حياته الطيبة المباركة، رصدتها عين واعية يقظة، ثم نقلتها للأمة لحظة بلحظة منذ غروب الشمس وإلى انفلاق الصبح؛ حتى لكأنما هي أمامنا رأي عين.
وكان مبتدأها أن العباس بن عبد المطلب أرسل ابنه عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة له، فأتى رسول الله عشية فوجده جالساً في المسجد فلم يستطع أن يكلّمه لما رأى من انشغاله حتى صلى المغرب، فلما فرغ صلى الله عليه وسلم من صلاة المغرب قام يصلي حتى أذن بصلاة العشاء فلما فرغ من صلاة العشاء صلى في المسجد أربع ركعات حتى لم يبق في المسجد غيره، ثم انصرف إلى بيته فوافاه ابن عباس وأخبره بحاجة أبيه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا بني بِت الليلة عندنا”، وكان النبي صلى الله عليه وسلم عند زوجه ميمونة خالة ابن عباس فوافق ذلك مراداً ورغبة عند ابن عباس ورغب فيما عرضه عليه رسول الله، فليس مبيته إلا عند عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعم الرجل صنو أبيه وعند خالته ميمونة والخالة أم، ودخل ابن عباس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته وهو يقول في نفسه: لا أنام الليلة حتى أنظر ما يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل. فعزم على السهر ليطّلع على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته في ليله، ومع ذلك قال لخالته -زيادة في الاحتياط-: إذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأيقظيني.
وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدث مع زوجه ميمونة ساعة ثم دخل معها في فراشها ورقد، وليس ثـمَّ إلا وسادة واحدة نام صلى الله عليه وسلم وزوجه في طولها ونام الغلام ابن عباس في عرضها. وبقي يرمق متى يستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاته وكيف سيصليها.
فلما كان نصف الليل استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى ابن عباس راقداً فقال: نام الغليم، ثم جلس يمسح النوم عن وجهه المبارك، ثم رفع بصره إلى السماء ينظر بتفكر في هدوء الليل وسكونه إلى عظمة الله في خلقه، وهو يقرأ:” إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ*الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ…”، حتى أتم العشر الآيات الخواتم من سورة آل عمران.
ثم قام إلى قربة باليه معلقة في البيت فأطلق رباطها ثم صب منها في إناء عنده فتوضأ منه وضوءاً خفيفاً سابغاً حسناً – وكانت الليلة ليلة شتاء باردة- ثم تناول سواكه فاستن به، ثم أخذ برداً له حضرمياً فالتحفه متوشحاً به ثم شرع في صلاته كل ذلك وابن عباس يرمقه ويتبع ببصره فعله حتى إذا استفتح صلاته قام ابن عباس فجعل يتمطى كمن استيقظ من النوم لتوه كراهية أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يرقبه، ثم توضأ ابن عباس كما توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جاء فوقف عن يساره فتناوله رسول الله صلى الله عليه وسلم من يده فأداره من خلفه فجعله عن يمينه، وجعل صلى الله عليه وسلم يتعاهد الغلام فيمد إليه يده يضعها على رأسه مرة ويمسك بشحمة أذنه فيفتلها مرة، قال ابن عباس: فعرفت أنه إنما صنع ذلك ليؤنسني بيده في ظلمة الليل، ورصد ابن عباس صلاته صلى الله عليه وسلم في ليلته تلك، فكان أول ما افتتح به صلاته أن صلى ركعتين خفيفتين ثم صلى إحدى عشرة ركعة فتتامت صلاته ثلاثة عشرة ركعة.
حتى إذا قضى صلاته عاد فاضطجع ونام واستغرق في نومه حتى سمع ابن عباس غطيطه، فلما أذن بلال بالفجر قام فصلى ركعتين خفيفتين ثم خرج إلى المسجد فصلى بالناس الفجر.
وهكذا تتامت ليلة نبوية منورة لرسول الله صلى الله عليه وسلم نقرأ من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها آيات مبينات وسوراً مشرقات:
– نرى في هذا الحديث التصديق العملي لقوله صلى الله عليه وسلم:”وجعلت قرة عيني في الصلاة”، فكم قد صلى الله رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلته تلك؟ لقد صلى ما بين المغرب والعشاء كله، ثم صلى بعد العشاء أربع ركعات
ترسّل فيها حتى لم يبق في المسجد أحد، ثم قام ليلته بثلاث عشرة ركعة قطع فيها نحواً من ثلث الليل، إنها الصلة النبوية الوثقى بالصلاة بحيث لا يكاد يفرغ منها حتى يعود إليها بغاية التلهف والشوق.
– ترى البساطة في الحياة و والتخفف من متاع الدنيا في بيت النبوة الذي أذهب الله عنه الرجس وطهره تطهيراً، فهذا البيت ليس فيه إلا قربة بالية، وفراش واحد ولذا لم يفرش لابن عباس فراش ولم يوسد وسادة، وإنما شارك رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجه وسادتهما فنام هو في عرضها وناما هما في طولها ولم يمر بك برغم تفصيل كل ما حدث ذكر لطعام أُكل في تلك الليلة.
– يظهر بر النبي صلى الله عليه وسلم وحفاوته بابن عمه عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، وذلك بدعوته للمبيت عنده، وملاطفته بالخطاب بالبنوة (يا بني)، ومقاسمته وسادته التي ينام عليها، ومؤانسته في ظلمة الليل وهو في صلاته بمسح رأسه وفتل أذنه، وهذه اتحافات نفيسة لها وقعها وأثرها. وكل هذا رعاية لقرباه ومكانة عمه، ولك أن تتصور الأثر النفسي العظيم في قلب العباس بن عبد المطلب عندما عاد إليه ابنه فأخبره بخبره وما جرى في ليلته، إنها صورة من بر رسول الله وإكرامه لعمه العباس يتلقاها من خلال الحفاوة بابنه عبد الله وهو القائل: “إن عم الرجل صنو أبيه”.
#ومضات_نبوية
#ومضات