خرج سيدنا اسامة بن زيد رضى الله عنه مجـاهداً في هذه المعركة ، و كان في بكور شبابه، وعنفوان فتوته، لم يجاوز السادسة عشرة من عمره، فلعله كان أصغر الجيش سـناً، ولعلها أول غزاة يخرج فيها.
وكان من المشركين رجل إذا أقبلوا كان أشدَّهم وإذا أدبروا كان حاميهم، و لا يشاء أن يقصد إلى رجل من المسلمين إلا قصد إليه فقتله، فبادره هو ورجل من الأنصار، حتى إذا غشياه بسلاحهما، واستمكنا منه، صرخ بكلمة النجاة والفكاك: ” لا إله إلا الله ” فأشـاح الأنصـاري سيفه، وأما هـو فرأى أنها صرخة المتعوذ من رهق السيف، والمستمسك بها سـبباً للنجاة ، كيف وقتلاه من المسـلمين لازالـوا يتشـحطون في دمـائهم.
وخـرَّ فارس القـوم صريعاً، فتضعضع جمع المشركين، وانفلَّ حدهم، ثم كانت الهزيمة عليهم، وجاء البشير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشره بالنصر، ويخبره أخبار المعركة وما لقوا فيها، وكان مما أخبره نبـأ ذاك القتيـل، وما تعوذ بـه قبل أن يقتل، فبلغ ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم مبلغه، واستدعى أسامة بن زيـد ليقول له : “يا أسـامة ، أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟!” قال : يا رسول الله إنما قالها مخافة السلاح و القتل ؟! فقال:”ألا شققت عن قبله؛ حتى تعـلم أقالها مـن أجـل ذلك أم لا؟!”.
فأراد أسامة أن يبين لرسـول الله استحقاق ذلك الرجل القتـل لكثـرة من قتـل من المسـلمين، فقال: يا رسـول الله أوجع في المسلمين، وقتل فلاناً وفلاناً، وسمى أناساً يعرفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهُمْ أصحابه الذين يراهم في مسجده، ويلقاهم في طريقه ، ثم هم جنوده الذين خرجوا قتالاً تحت رايته ، إن ذلك كافٍ في استثارة عواطف النبي صلى الله عليه وسلم لهم بما يعظم جرم قاتلهم واستحقاقه للقتل كما قتلهم .
وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجاوز ذلك كله بالتذكير بمعقد العصمة، قائلاً:”فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟”.
ورأى أسامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقبل تأويله الذي تأوّل، ولا عذره الذي أعتذر ، واستبانت له حرمة الدم الذي سفكه، وعظم الذنب الذي قارفه ، فخاطب النبي صلى الله عليه وسلم خطاب المعترف المستعتب ، قائلاً : يا رسول الله استغفر لـي .
وانتظر أسـامة أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : غفر الله لك ، ولكن رسول الله أعاد ما قال:”كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة” فكرر عليه أسـامة : يـا رسول الله اسـتغفر لـي ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزيد في جوابه على قـوله:”كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة”؛ حتى كرب أسامة لذلك كرباً شديداً تمنى معه أنه لم يكن أسـلم إلا هذه الساعة؛ حتى يهـدم إسـلامه ما قبـله، ويأمن جريرة فعلتـه .
وقد بقي أثر ذلك التأديب النبوي عميقاً في نفس أسامة، فكان أكف الناس عند كل فتنة يخشى أن يكون من قتلاها من يشهد ألا إله إلا الله، حتى كان سعد بن أبي وقاص على جلالته وسابقته وكبر سنه يقول : لا أقاتل مسلماً حتى يقاتله أسامة ، لشدة ما يرى من توقيه واحتياطه فيما يلتبس من أمـر الدماء ، فصلوات الله وسلامه على عبده ورسوله محمد الذي علم فأحسن التعليم، وأدب فأحسن التأديب .
يلفت النظر هنا قـوة تقرير النبى “صلى الله عليه وسلم” لحرمة الدم المعصوم، والانكفاف عنه مهما كانت المثيرات والمسوغات، ووضوحه في نفوس الصحابة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد ملأ به نفوسهم، فكان حاجزاً منيعاً يمنعهم تقحم هذا الذنب أو الاستهانة به، ودلالة ذلك من الحديث ظاهرة في كف الأنصاري عن الرجل، مع أنه رأى ما رآه أسـامة من قتله من قتلهم من خيار المسلمين، وكان مستثاراً كما كان أسامة رضي الله عنه، ولكنه ما إن سمع الهتاف بالشهادة حتى أشاح السيف عنه، وكف عن القتل بعد أن استمكن منه .
كما يظهر ذلك من فشو الخبر حتى بلغ النبي صلى الله عليه وسلم مع البشرى بالنصر، بل إن أسامة رضي الله عنه ما إن قتل الرجل حتى وقع في نفسه من ذلك شيء ، وهذا كله يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قرر هذا المعنى بجلاء لا غموض فيه، وبيان لا لبس معه حتى استبان لأصحابه وتشبعت به نفوسهم .
#ومضات_نبوية
#ومضات