إنها أعظم ليلة شهدتها البشرية منذ بدء الخليقة، ليلة اختارها الله لبدء تنزيل القرآن وانسياب نور الهداية على الوجود كله. وقد جعل الله تعالى ذكراها السنوية أفضل ليلة في العام على الإطلاق وجعل العبادة فيها خيرا من عبادة ألف شهر.
لماذا سماها الله ليلة القدر؟ وهل لها علامات ثابتة ؟ .. ما هي أفضل الأعمال التي نقضيها فيها؟ وهل الأعمال لليلة القدر فقط أم لنهارها أيضا؟ .. هل للحائض والنفساء نصيب من إحيائها؟ وهل هي ليلة السابع والعشرين ؟
هذا بحث مختصر يجيب على هذه الأسئلة.
أولا:
سماها الله تعالى ليلة القدر إما لأن لها قدرا عظيما ومقاما رفيعا، كما تقول لفلانٍ قدر وكما قال تعالى (وما قدروا الله حق قدره)، أو لأن فيها يتم تقدير الأعمال والأرزاق للسنة المقبلة، كما قال تعالى (فيها يفرق كل أمر حكيم), أي: يكتب, ويفصل أو يبين في هذه الليلة للملائكة، فتنزل فيها سجلات أقدار كل شيئ يخص العام المقبل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، فيكتب فيها السعداء والأشقياء والأحياء والأموات، والعزيز والذليل, ويكتب فيها الجدب والقحط وأقدار الدول والشعوب وأقدار الأفراد وتقلبات القلوب. وقيل سميت ليلة القدر أي الضيق لأنها ليلة تضيق فيها الأرض عن الملائكة من كثرة تنزلهم، قاله الخليل بن أحمد واستشهد بقوله تعالى (ومن قدر عليه رزقه) أي: ضيق. وقيل أيضا في سبب تسميتها أن من لم يكن له قدر صار بمراعاتها ذا قدر، أو لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر, وتنزل فيها رحمة ذات قدر, وملائكة ذوو قدر.
ثانيا: لليلة القدر أربعة فضائل عظيمة:
1– أنها خيرٌ من ألف شهر، فالطاعات فيها من ذكر وقراءة قرآن ودعاء وقيام وغيرها خيرٌ من ألف شهر من نفس الطاعات. وأفضل هذه الأعمال الدعاء، خاصة الدعاء الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم عائشة -رضي الله عنها- حين قالت: إن أريت ليلة القدر ماذا أقول؟ فقال لها (قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني). ولنعلم جميعاً أنه ليس لليلة القدر دعاء مخصوص لا يُدعى إلا به، بل يدعو المسلم بما يحتاجه ويناسب حاله ويحرص قدر الإمكان على الأدعية الجامعة من دعوات النبي صلى الله عليه وسلم. ولا يغفل عن الدعاء العام لأمة المسلمين وخاصة المبتلين منهم كأهلنا في سوريا وبورما، وقد قال الإمام النووي: ويُستحب أن يُكثر فيها من الدعوات بمهمات المسلمين، فهذا شعار الصالحين، وعباد الله العارفين”. وأفضل الدعاء أصدقه، ونبتعد عن التكلف في الدعاء فإن تنميق الدعاء يحول دون الإجابة.
وحيض المرأة أو نفاسها لا يمنعها من اغتنام فرصة العشر الأواخر بالدعاء والذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والاستماع لتلاوة القرآن، وفعل الصالحات، والحائض والنفساء بامتناعها عن الصلاة وقراءة القرآن تطيع الله تعالى وتمتثل أمره، فامتناعها هذا طاعة وقربى.
2– نزول الملائكة: حيث يكثر نزولها لكثرة خيراتها وبركاتها، فالملائكة تتنزل حيث تتنزل الرحمة والبركة، فيتنزلون
عند تلاوة القرآن, ويحفون حِلَق الذكر, ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدقٍ تعظيمًا له. ويتنزل معهم جبريل عليه السلام، الروح الأمين على وحي الله إلى رسله. فاستشعر في هذه الليلة العظيمة وجود أعداد غفيرة من الملائكة وفيها جبريل عليه السلام قريبة منك هنا على الأرض.
3– سلام هي حتى مطلع الفجر: فهي ليلة سالمة لا يحدث فيها داء ولا يُرسَل فيها شيطان.
4- (من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدّم من ذنبه) كما أخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم. وشرطه الإيمان بصدق هذا الوعد وأن يُرجى بالقيام الأجر من الله تعالى ، بريئًا من الرياء والسمعة.
ثالثا: موعد ليلة القدر
هي في شهر رمضان بلا خلاف (شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن)، ثم تعددت جدا أقوال العلماء في تحديدها، والذي تطمأن له النفس أنها في أوتار العشر الأواخر وفي ذلك عدة أحاديث صحيحة صريحة، منها قوله صلى الله عليه وسلم (إني أريت ليلة القدر، ثم أنسيتها أو نسيتها، فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر). وجمهور العلماء (ومنهم الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد) يرون أن ليلة القدر ليست ثابتة، وإنما تتنقل، أي من الممكن أن تكون في عام في ليلة سبع وعشرين، والعام التالي في واحد وعشرين مثلا ، والذي بعده في خمس وعشرين .. وهكذا. وقال بعضهم إن قوله صلى الله عليه وسلم (التمسوها) دليل على أﻧﻬا تتغير وتتنقل، ولا تثبت في ليلة واحدة. وقد تكون مع انتقالها يكثر وقوعها ليلة سبع وعشرين.
رابعا: علامات ليلة القدر
ثبت من علاماتها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (أن الشمس تطلع صبيحتها لا شعاع لها)، وقوله في وصفها (ليلة القدر ليلة طلقة, لا حارة ولا باردة, تصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة). وهاتان العلامتان معروفتان ومشاهدتان على نطاق واسع. وقد قال الإمام النووي: “فإنها تُرى وقد حققها من شاء الله تعالى من بني آدم كل سنة في رمضان، كما تظاهرت عليه هذه الأحاديث، وأخبار الصالحين بها، ورؤيتهم لها أكثر من أن تحصر”.
وقد يتنطع البعض وينكر هذا الخبر الصادق ويقول: إن الشمس وخصائصها لا تتغير ولو تغيرت لاختل نظام المجموعة الشمسية، وجواب ذلك: إن قدرة الله مهيمنة على كل نواميس الكون ولا تخضع له، ومع ذلك فقد رأى بعض أهل العلم أن السبب في هاتين العلامتين أن كثرة اختلاف الملائكة في ليلة القدر ونزولها إلى الأرض وصعودها بما تنزل به، فإنها تستر بأجنحتها وأجسامها اللطيفة ضوء الشمس وشعاعها.
هذا .. وهناك عشرات العلامات التي لا أصل لها ولم يصح بها الخبر، ولم يصح إلا ما ذكرناه هنا. ومن هذه العلامات الباطلة والتي تشيع عند البعض: أن المياه المالحة تصبح حلوة في ليلة القدر، أو أن الكلاب لا تنبح فيها، أو أن الأنوار تكون في كل مكان، أو أن الأشجار تسقط حتى تصل إلى الأرض, ثم تعود إلى أوضاعها, أو أن الناس يسمعون التسليم في كل مكان .. وغيرها وكل هذا باطل لا يصح شيء منه.
وعلى كل حال، فليس من الضروري لمن أدرك ليلة القدر ووفقه الله إلى الاجتهاد فيها، ليس من الضروري أن يعرفها ويرى علاماتها. وربما أصابها البعض ولم يتعرفوا على علاماتها، وربما فاتت آخرين رغم أنهم رأوا بأعينهم علاماتها الثابتة. فالعبرة بالعمل والاجتهاد في هذه الليالي المباركة، وإصابة ليلة القدر ليس ضربة حظ، ولكنها محض توفيق من الله تعالى لمن يجد ويجتهد مؤمنا بوعدها محتسبا لأجرها وفضلها.
وقد وذهب الحافظ ابن حجر إلى أن من رأى ليلة القدر، استُحبّ له كتمان ذلك، وألا يخبر بذلك أحداً، والحكمة في ذلك أنها كرامة، والكرامة ينبغي كتمانها بلا خلاف.
خامسا: يرى بعض أهل العلم أن خيرات وبركات ليلة القدر تمتد لنهارها، قال الإمام الشافعي: استحب أن يكون اجتهاده في نهارها، كاجتهاده في ليلها. لكن حصر حالة السلام الذي تتنزل به الملائكة حتى مطلع الفجر فقط، وكون الآيات والأحاديث تصفها بـ “ليلة” القدر، بالإضافة لكون العلامات الثابتة تكون في صبيحتها بعد انقضاء العمل، كل هذا يٌشعر أن المقصود بالفضائل ليلة القدر دون نهارها.
..
إن في حياة الدول والشعوب أياما مجيدة تحتفل بها وتتطلع لقدومها، ولقد شرفت هذه الأمة بهذه الليلة المباركة التي كانت علامة فارقة في تاريخ البشرية. إن من علامات السعادة والتوفيق أن نعظم قدر ليلة القدر وأن نجتهد في إحيائها، وإن التعيس الشقي الذي يٌحرم خيرها وبركتها بالغفلة عنها، وأتعس منه وأشقى من يقضيها في المعاصي والملاهي وما يوجب سخط الله وغضبه.
د. محمد هشام راغب