ما تعيشه الأراضي الفلسطينية المحتلة هذه الأيام هو مخرجات وتداعيات قمة النقب التي ترأستها إسرائيل، ودعت إليها دولا عربية تنافست فيما بينها على لقب الأكثر نفعًا وقربى للاحتلال الصهيوني.
هذه الانتفاضات التي تشتعل في المدن الفلسطينية المحتلة، وأعمال المقاومة البطولية التي يقوم بها شبّان فلسطينيون، هي بذاتها تعبيرٌ عن أنّ المواطن الفلسطيني بات مقتنعًا، أكثر من أيّ وقت مضى، أنه يخوض معركته للدفاع عن وجوده وحده، وهي تلك المعركة التي تمثل دفاعًا عن شيء في طريقه إلى الانقراض، اسمه الكرامة العربية، يكاد يتلاشى بفعل أنظمةٍ حاكمةٍ لم تعد تشعر بالخجل، وهي تعلن عداءها الصريح لأفكار التحرّر الوطني ومقاومة الاحتلال، بل وتصنفها جرائم تستوجب العقاب.
كان الشارع العربي هو ذلك العنصر المؤثر الذي يحضر وقت اللزوم، لكي يعدّل المائل ويوقف الهرولة والأسرلة، ويجسّد ذلك الرادع الوطني والأخلاقي لتفريط الحكّام وخيانات بعضهم. أما وأنّ هذا الشارع قد اغتيل، أو اختُطف بعيدًا جدًا عن قضاياه الحقيقية، فلم يعد في وسع الفلسطينيين رفاهية توّقع مواقف عربية، رسمية أو شعبية، تقلق الاحتلال أو تجعله يفكّر لحظة قبل الإقدام على مزيد من الممارسات والإجراءات المهينة للمقدسات في الأراضي المحتلة.
ليست الأنظمة وحدها التي خذلت الشعب الفلسطيني، بل فعلت قطاعاتٌ واسعةٌ من النخب الشيء نفسه، حين راح بعضها يصهين عن التطبيع تحت شعارات الحداثة وشارات الاستنارة، فيما يصهين بعضها الآخر عنه، حين يصدر فعل التطبيع من دول وأنظمة تدّعي إحياء فكرة الأممية الإسلامية، بل إنّ كثيرين من الجانبين سقطوا في امتحان الحرب الروسية الأوكرانية، حين برّروا الانحياز للاحتلال الروسي الأراضي الأوكرانية بأن الرئيس الأوكراني صهيوني الهوى والهوية، وكأنّ الغازي الروسي من أحفاد صلاح الدين.
أهينت قضية فلسطين حين استخدمت أداة، أو ورقة ابتزازٍ في المعضلة الأوكرانية، بحيث وجدنا من الذين شيطنوا المقاومة الفلسطينية، بزعم إنها إخوانية، من يؤيد البلطجة الروسية في غزو أوكرانيا، تحت مزاعم أنّ المواقف الروسية، تاريخيًا، كانت أكثر تعاطفًا مع فلسطين، وهذا من الأوهام التاريخية التي يردّدها قطاع واسع من اليسار العربي.
قبل بضع سنوات أصدر الكاتب المصري، سامي عمارة، الخبير في الشؤون الروسية، إذ عاش وعمل مراسلًا في الاتحاد السوفييتي نحو خمسين عامًا، كتابًا تحت عنوان “موسكو، تل أبيب.. وثائق وأسرار”، يوثّق علاقة روسيا بالعرب وفلسطين والكيان الصهيوني، ويكشف فيه عن أنّ إسهام السوفييت في إنشاء الكيان الصهيوني أكبر بكثير من دور وعد بلفور الذي أصدره وزير خارجية بريطانيا، إلى زعيم يهود بريطانيا، ليونيل والتر روتشيلد، عام 1917 بتأييد حكومة بلاده إقامة وطن لليهود في فلسطين.
يستعرض سامي عمارة في كتابه، ما ورد في كتاب اليهودي الروسي ليونيد مليتشين، الصادر في موسكو عام 2005، بعنوان “لماذا أنشأ ستالين إسرائيل”؟ والذي يؤكد فيه أنه “لم تكن إسرائيل لتظهر إلى الوجود، لو لم يكن ستالين قد أراد قيامها”. يقول عمارة إنّ ستالين خطّط لإنشاء إسرائيل لتكون أول دولة اشتراكية في الشرق الأوسط، ودعمها بالمال والبشر والسلاح، لكن الفكرة الاشتراكية لم تكن محرّكه الوحيد في تدعيم إنشاء الكيان الصهيوني في فلسطين، بل كان يريد، كذلك، أن يمنع تنفيذ خطة أميركية يهودية لإقامة ذلك الوطن اليهودي الموعود في شبه جزيرة القرم.
الشاهد أنه ليس ثمّة فروق كبيرة بين المواقف الروسية والأميركية من قضية فلسطين، فعبارة “أن إسرائيل لم تكن لتظهر لو لم يكن ستالين قد أراد قيامها” تقابلها، من الناحية الأخرى، مقولة رئيس أميركا الحالي جو بايدن، التي قالها عام 1973 “لو لم تكن إسرائيل موجودة لتعيّن على الولايات المتحدة إيجادها”. ومن الواضح أنّ النظام الرسمي العربي، الحالي، يعتنق الفكرتين، الستالينية والأميركية معًا، بل ويصل إلى ما هو أبعد ولسان حاله يقول: فلسطين إسرائيلية، رغم أنف الشعوب العربية.
المصدر العربي الجديد