بقلم: صادق أمين
إن التجرؤ على المعاصي والإعراض عن ذكر الله يجلبان الهمّ، ويخربان العامر، ويستدعيان ضنك العيش وضيق الحال.. ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)﴾ (طه).
وإذا سادت الخطيئة وخالف الناس أمر ربهم، تعرضوا للفتن والمصائب، وسلّط الله عليهم من جنوده، التي لا يعلمها إلا هو ما يفسد معايشهم، ويحيل حياتهم إلى تعاسة ونكد.. ﴿فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)﴾ (النور).
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعِينة، وتركوا الجهاد في سبيل الله، وتبعوا أذناب البقر، أنزل الله بهم ذلاًّ فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم” (الطبراني).
في كتابه الأشهر (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي) ذكر ابن القيم أن آثار المعاصي على صاحبها لا تخلو من: حرمان العلم، وحرمان الرزق، ووحشة في القلب بينه وبين الناس، ووحشة بينه وبين الله، وتعسير الأمور، والمعصية تضعف القلب وتمرضه، والعاصي يحرم الطاعة بمعصيته، المعصية تمحق بركة العمر، وتكثر الشياطين.. المعاصي تزرع أمثالها ويولّد بعضها بعضًا.. العاصي يألف المعصية ولا يستقبحها، هوان العاصي على ربه، المعصية تفسد العقل، وسبب لحدوث الفساد في الأرض.. المعصية تطفئ الغيرة، وتزيل النعم، وتحل النقم، ويلقي الله تعالى بسببها الرعب في قلب العاصي.. المعصية تطمس البصيرة، وتجعل صاحبها أسيرًا للشيطان.. المعصية تصغّر النفوس وتحقّرها، وتجعل صاحبها سجينًا لشهواته، مقيدًا لهواه.. المعصية تُسقط كرامة الإنسان، العاصي تجترئ عليه شياطين الإنس والجن.. وربما منعته المعصية من النطق بالشهادة عند الاحتضار.
يروى عن محمد بن سيرين، أنه لما ركبه الدين اغتمَّ لذلك، فقال: “إني لأعرف هذا الغمّ بذنب أصبته منذ أربعين سنة”..
وقال بعض السلف: “إني لأعصي الله، فأرى ذلك في خُلق دابتي وامرأتي”..
وسأل بختنصر دانيال: ما الذي سلَّطني على قومك؟!، قال: “عِظم خطيئتك وظلم قومي أنفسهم”.
إن كبرى المعاصي التي يقع فيها الخلق، هي حب الدنيا وانشغالهم بها، وانصرافهم عن ذكر الله وطاعته، ونسيانهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- فيسود لذلك الفساد والجهل والنفاق وتكثر الخبائث، ويعلو الفجار على الأبرار.. هنا تتدخل العناية الإلهية، فتصب لعنتها على هؤلاء العصاة، وتسلّط عليهم من لا يرحمهم، وتحول بينهم وبين رغباتهم غير المشروعة؛ كي لا تكون فتنة ويكون الدين لله.. ﴿وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)﴾ (سبأ).
يحب الله من عباده: الطائعين، الذين يخشونه ويخافون عذابه، فيدُخلهم في كرامته، ويفتح لهم أبواب خزائنه، ويقربهم منه، معليًا قدرهم، رافعًا ذكرهم، حارسًا إياهم من كل أذى..
قال بعض العلماء: “من خاف الله أخاف الله منه كل شيء، ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء”..
ويكره الله من عباده، الظلمة الفجار، وهؤلاء وإن بدوا- في ممالكهم ومناصبهم- ذوي جاه وسلطان، إلا أن الله تكفَّل بزرع الذلة والحقارة في نفوسهم..
يقول بعض السلف: “إنهم وإن هملجت بهم البراذين وطقطقت بهم البغال؛ إنّ ذل المعصية لفي قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه”..
ليس هذا فقط، بل يصابون بظلمة الوجه، ووهن البدن، وتشتت الذهن، وبهوان ما بعده هوان.. ﴿وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنْ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)﴾ (يونس).
يروى عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أنه قال: “قال داود- عليه السلام- في مناجاته: إلهي، من يسكن بيتك؟ وممن تتقبل الصلاة، فأوحى الله إليه: “يا داود، إنما يسكن بيتي وأقبلُ الصلاة منه؛ من تواضع لعظمتي، وقطع نهاره بذكري، وكف نفسه عن الشهوات من أجلي، يطعم الجائع، ويئوي الغريب، ويرحم المصاب، فذلك الذي يضيء نوره في السماوات كالشمس، إن دعاني لبّيته، وإن سألني أعطيته، أجعل له في الجهل حلمًا، وفي الغفلة ذكرًا، وفي الظلمة نورًا، وإنما مثله في الناس كالفردوس في أعلى الجنان، لا تيبس أنهارها، ولا تتغير ثمارها”.
إن أهل الطاعة في نعيم، لو علم به أبناء الملوك لقاتلوهم عليه.. إنّ من رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا، وعمل بمقتضاها، ألبسه الله لباس التقوى، وزينه بحلل الكرامة، وقذف في قلبه نورًا يرى به ما لا يراه الآخرون، وجعل حياته أمنًا وهدًى ورشادًا.. ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)﴾ (الأنعام)، ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22)﴾ (الزمر)
ولقد حمل لنا التاريخ الإسلامي أخبار من سبقونا من السلف الصالح، ممن أنار الله بصائرهم، فكانوا لنا مصابيح هدى، ومنارات علم وإيمان، اجتهدوا في الطاعات حتى ذبلت أجسادهم، وتدبروا أمورهم فانحازوا للآخرة، وعملوا لها حتى انشرحت صدورهم، فازدادوا قوةً إلى قوتهم، واستأنسوا بالطاعات حتى فاضت قلوبهم طمأنينةً ويقينًا..
لما دخل ابنُ تيمية سجن القلعة قال: “ماذا يصنع أعدائي بي؟!، أنا جنتي وبستاني في صدري، أينما رحت فهي معي، وإن معي كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.. إن قتلوني فقتلي شهادة، وإن نفوني فنفيي سياحة، وإن سجنوني فسجني خلوة مع ربي، إن المحبوس من حُبس عن ربه، وإن الأسير من أسره هواه”.
ويتحدث عنه تلميذه ابن القيم يقول:
“وعلم الله، ما رأيتُ أحدًا أطيب عيشًا منه، مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك أطيب الناس عيشًا، وأشرحهم صدرًا، وأقواهم قلبًا، وأسرّهم نفسًا، تلوح نضرة النعيم على وجهه.. وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحًا وقوةً ويقينًا وطمأنينةً”.
وكان الأسود بن يزيد يجتهد في العبادة، ويصوم في الحر حتى يخضرّ جسده ويصفرّ، فكان علقمة بن قيس يقول له: لِمَ تعذب نفسك؟ فيقول: كرامتها أريد..
أطعتُ مطامعي فاستعبدتني ولو أني قنعتُ لكنتُ حرّا
ولا شيء أكرم للمؤمن من حبِّ الناس له، وتزكيتهم لصفاته وأخلاقه.. وهذا لا يكون إلا بالإخلاص في الطاعات، وترك المنكرات، والاستقامة على منهج الله رب العباد.. ساعتها يحبه الله؛ وما أدراك ما حب الله لعبد من عبيده؟!
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا أحب الله العبد نادى جبريل: إن الله يحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل، فينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض” (البخاري ومسلم).
عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل سأله أن يوصيه فقال: “إذا أردت أمرًا فتدبر عاقبته، فإن كان رشدًا فأمضه، وإن كان غيًّا فانته عنه” (ابن أبي الدنيا).
وقال صلى الله عليه وسلم: “إنك لا تدع شيئًا اتقاءً لله تعالى إلا أعطاك الله عزَّ وجلَّ خيرًا منه” (أحمد).
إذا كنتَ قد أوحشتك الذنوبُ فدعها إذا شئتَ واستأنسِ
إن أهل التقوى هم الأحق بشرح الصدور، وامتلاء قلوبهم بالفرح والنور، وهم الأحق بالسكينة والأمن، وبالنجاة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة؛ ذلك أنهم قدّموا الخير، وبذروا البذر، وجاءوا بالحسنات والأعمال الصالحة- فكان على الله أن يبشرهم برحمته، ورضوانه، وجنته، وأن يهديهم للإيمان، وأن يحفظهم في أنفسهم وأموالهم وأهليهم.. ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)﴾ (فصلت).
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: “ذاق طعم الإيمان؛ من رضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً” (أحمد).
لما حضرت عبد الملك بن مروان الوفاة، نظر إلى غسّال بجانب دمشق يلوي ثوبًا بيده ثم يضرب به المغسلة، فقال عبد الملك: ليتني كنتُ غسّالاً آكل من كسب يدي يومًا بيوم ولم ألِ من أمر الدنيا شيئًا.
فبلغ ذلك أبا حازم فقال: الحمد لله الذي جعلهم إذا حضرهم الموت يتمنون ما نحن فيه، وإذا حضرنا الموت لم نتمنّ ما هم فيه.