عربي21
كشفت صحيفة “هآرتس” العبرية، أن رئيس وزراء سوريا الأسبق، جميل مردم، كان عميلا مزدوجا، وأعطى معلومات حاسمة لـ”إسرائيل”، ساعدت فيما بعد في قيام “الدولة”.
ولفتت الصحيفة في تحقيق يستند إلى وثائق رسمية ترجمته “عربي21″، أن تعاونا قام به مردم مع الوكالة اليهودية في أثناء عمله سفيرا لسوريا في القاهرة ومندوبا لها لدى جامعة الدول العربية عام 1945.
واستنادا إلى وثائق في الأرشيف الإسرائيلي، والفرنسي، والسوري، قالت “هآرتس” إن رئيس الوزراء السوري تم التعامل معه بالفعل من قبل عميل استخبارات صهيوني مع الفرنسيين، مشددة على أن المعلومات التي تم نقلها برعايته إلى دافيد بن غوريون (أول رئيس وزراء إسرائيلي) كانت حاسمة خلال الفترة التي سبقت “قيام الدولة”.
تفاصيل التجنيد
وبدأت قصة تجنيد “مردم” في صيف عام 1945، حين كشفت معلومات استخبارية حصلت عليها فرنسا، أن مردم، رئيس وزراء سوريا تحت الانتداب الفرنسي هناك، تم تجنيده من قبل العميد، إيلتيد نيكول كلايتون، رئيس MI6 في الشرق الأوسط، ونوري السعيد، رئيس الوزراء العراقي آنذاك.
وبحسب ما أوردته الصحيفة، فقد وافق مردم أيضا على خطة تتوحد بموجبها سوريا، بعد طرد فرنسا من الأراضي الخاضعة لانتدابها، مع العراق ومع شرق الأردن في ظل الأسرة الهاشمية، وستتمتع بريطانيا -التي كانت تسيطر على هذين البلدين- بالهيمنة في دمشق أيضا.
وبالنسبة لدور مردم فيما سمي بخطة “سوريا الكبرى”، فقد حصل على مبالغ كبيرة، ووعد بأنه سيحكم سوريا، في عهد الملك الهاشمي.
وشدد على أن “ما حدث هو أن الفرنسيين قرروا استغلال الوضع لأغراضهم الخاصة، وبدأوا في ابتزاز مردم، وهددوا بنشر الوثائق التي بحوزتهم، وتسريب المعلومات لخصومه السياسيين، ما دفع مردم إلى الاستقالة، في أغسطس 1945، بعد التشاور مع البريطانيين، لكنهم لم يعرفوا أنه استسلم للابتزاز وأصبح عميلا مزدوجا.
في تلك الفترة، زود مردم الفرنسيين بمعلومات قيمة حول نوايا الجيش البريطاني وأجهزة المخابرات في الشرق الأوسط.
وتشير الصحيفة إلى أن “كل شيء كان في أكتوبر 1945، عندما واجه الفرنسيون مشكلة جديدة، وكان مردم قد عين سفيرا لسوريا في مصر ومبعوثا لها في مقر الجامعة العربية في القاهرة، لكن الفرنسيين واجهوا صعوبة في استغلاله هناك دون إثارة الشكوك، وكان الحل هو تجنيد إلياهو ساسون لمهمة نقل المعلومات التي قدمها مردم.
وتابعت “هآرتس” بأن “ساسون، الذي كان في ذلك الوقت رئيس القسم العربي للدائرة السياسية في الوكالة اليهودية، عينه رئيس الوكالة بن غوريون في فبراير 1945 لتنسيق التعاون مع المخابرات الفرنسية، وكان ساسون، سوري المولد، يعرف مردم والتقى به عام 1937، عندما كان الأخير قد شغل منصب رئيس الوزراء لفترة سابقة”.
في هذا الوقت، “بدأ الفرنسيون، الذين كانوا على دراية جيدة بساسون وفكروا بقدراته التشغيلية، في التعاون معه، وفي التعامل مع مردم، وتشير الوثائق إلى أنه في 12 نوفمبر 1945، التقى ساسون مردم في القاهرة.
مردم كان مصدرا مهما لبن غوريون
وفعل ذلك مرة أخرى بعد ستة أيام، عندما زار مردم القدس على رأس وفد جامعة الدول العربية؛ لترتيب التمثيل الفلسطيني في الجامعة.
“وبعد هذه اللقاءات، التقى بن غوريون مع ساسون، وتم تحديد مردم مباشرة كمصدر استخباراتي لبن غوريون. وفي السنوات التي تلت ذلك، أخفت كل من المخابرات الفرنسية وساسون بوسائل مختلفة حقيقة أن مردم كان مصدر المعلومات؛ من أجل عدم فضحه”، بحسب الصحيفة.
ومع ذلك، فإن المعلومات التي تم الكشف عنها لأول مرة في مذكرات موريس فيشر، ضابط مخابرات في المقر العسكري للقوات الفرنسية الحرة في بيروت، والذي خدم سابقا في مليشيا الهاغاناه الصهيونية قبل قيام “الدولة”، وأصبح فيما بعد أول سفير لإسرائيل في فرنسا، دليل إضافي على أن مردم كان مصدرا مهما للمعلومات لبن غوريون.
وكتب فيشر أن مردم كشفت عن الخطة “الأنجلو-عراقية” السرية لتأسيس ما تسمى سوريا الكبرى لعملاء صهاينة في القاهرة.
وقالت الصحيفة “إن مزيدا من التأكيد على أهمية المبعوث السوري تجاه الجهد الصهيوني يظهر في تقرير ناحوم ويلنسكي، الذي عمل كحلقة وصل بين فيشر وكبار الرتب في الدائرة السياسية في الوكالة. في تقرير صدر في سبتمبر 1945، أشار إلى أن الفرنسيين يمتلكون وثائق رسمية تثبت أن العديد من القادة السوريين تلقوا مبالغ مالية من الإنجليز.
وكان الفرنسيون آنذاك ينتظرون لحظة مواتية لنشر هذه الأوراق، وفي هذه الأثناء يستخدمونها للضغط على القادة المذكورين في الوثائق، ومردم على رأس القائمة”.
هجوم الدول العربية
وذكرت “هآرتس” أنه “منذ يوليو 1945، استعد بن غوريون لاحتمال هجوم من قبل الدول العربية إذا أعلنت الدولة اليهودية استقلالها، لكن المعلومات الواردة من مردم حولت الأضواء إلى مكان آخر، حيث علم بن غوريون أن التهديد المباشر لقيام الدولة اليهودية لا يكمن في هجوم من قبل الجيوش العربية، ولكن في خطة القادة العسكريين البريطانيين ووكالات المخابرات في الشرق الأوسط؛ لإحباط هذا التطور بوسائل أخرى مختلفة”.
وتابعت: “شمل ذلك إعلان مليشيا الهاغاناه منظمة إرهابية، ونزع سلاحها، وتنفيذ خطة سوريا الكبرى، التي بموجبها سيتم إنشاء كيان يهودي محدود في فلسطين الانتدابية، ولكن ليس دولة مستقلة”.
وبحسب المعلومات التي نقلها مردم، فإن الحكام العرب -الذين كانوا يخشون التدخل السوفييتي- قرروا مساعدة البريطانيين في حالة اندلاع حرب شاملة في الشرق الأوسط بين الاتحاد السوفيتي والغرب، بينما كانت سياسة لندن تلعب على الوقت من أجل إعادة تأهيل اقتصادها، ووضع العلاقات مع الولايات المتحدة على أساس متين.
وفيما يتعلق بالقضية الفلسطينية في مداولات مجلس جامعة الدول العربية، تم الإعراب عن القلق من أن الهجرة اليهودية المستمرة إلى فلسطين ستسمح للهاغاناه بضم جيش يقدر بنحو 80 ألف جندي، وأننا “لن نتمكن أبدا من مضاهاتهم في الإعداد والتنظيم”. وعليه، أراد القادة العرب بقاء الجيش البريطاني في فلسطين.
في النهاية، تم إحباط مخطط سوريا الكبرى من قبل العاهل السعودي، ابن سعود، الذي اعتبره تهديدا لمملكته. بعد أن حشد دعم الرئيس الأمريكي هاري ترومان ووزارة الخارجية، ما أدى إلى ممارسة ضغط شديد على لندن.
وفي 14 يوليو 1946، اضطرت الحكومة البريطانية إلى إعلان أنها لا تدعم مشروع سوريا الكبرى. ومع ذلك، واصلت القوات العسكرية والاستخبارات البريطانية في الشرق الأوسط جهودها لإنشاء سوريا الكبرى الهاشمية، كجزء من تحالف دفاعي إقليمي ضد التهديد السوفيتي، كما أرودت الصحيفة.
العودة إلى دمشق
كانت المعلومات التي تم نقلها من خلال مرديم إلى دافيد بن غوريون بالغة الأهمية لاستراتيجية الزعيم الصهيوني خلال الفترة التي سبقت قيام الدولة.
وأكدت الأحداث التي وقعت عام 1946 دقة المعلومات التي نقلها مردم عن النوايا العسكرية البريطانية في فلسطين. بادئ ذي بدء، في أيار/ مايو من ذلك العام، بدأ العميد التيد كلايتون، بالتعاون مع عبد الرحمن العزام، سكرتير جامعة الدول العربية، ووكيل بريطاني، لقاء رؤساء الدول العربية في قصر إنشاص بالقاهرة.
وأكدت قرارات المؤتمر لأول مرة أن الصهيونية تشكل خطرا، ليس على الفلسطينيين فقط، بل على الدول العربية كافة. وعقد اجتماع ثان لمجلس جامعة الدول العربية في يونيو في بلودان قرب دمشق.
وقد نصت بعض قراراتها السرية على وجود خطر المواجهة العسكرية مع الحركة الصهيونية، وفي هذه الحالة سيكون على الدول العربية واجب مساعدة إخوانهم الفلسطينيين بالمال والسلاح والقوى البشرية.
كان مردم حاضرا في مباحثات بلودان، وكذلك ساسون، الذي عاد بعد ذلك إلى القدس بمعلومات عن القرارات السرية، بحسب “هآرتس”.
وأكدت التحركات اللاحقة من قبل الجيش البريطاني والأجهزة السرية معلومات مردم. وفي 29 يونيو 1946 ، فيما عُرف باسم “عملية أجاثا” -أو “السبت الأسود” بالعبرية- اعتقلت وحدات من الجيش البريطاني قادة الوكالة اليهودية، لا سيما رئيس السياسة الخارجية موشيه شاريت، وصادرت ملفات في مقر الوكالة في القدس، وداهمت عددا كبيرا من الكيبوتسات؛ بحثا عن أسلحة ممنوعة. كان الهدف الحقيقي للعملية هو نزع سلاح الهاغاناه، وأن تستبدل بـ”القيادة المتطرفة” -أولا وقبل كل شيء بن غوريون- شخصيات أكثر اعتدالا.
وختمت الصحيفة بالقول: “فشلت العملية البريطانية إلى حد كبير، حيث تسربت التفاصيل المتعلقة بها إلى قيادة الهاغاناه قبل شهرين. نجا بن غوريون من الاعتقال، حيث كان في باريس في ذلك الوقت.
حاول البريطانيون أيضا العثور على دليل على الدعم الفرنسي للحركة الصهيونية -كانت ملفات إلياهو ساسون من بين الملفات الأولى التي استولوا عليها- لكنهم لم يجدوا شيئا قد يوحي بذلك”.