كان معظم الحملات الصليبية البحرية الغازية لبلاد مصر؛ تستهدف مدينة دمياط؛ لصلاحيتها أكثر من رشيد؛ لرسو السفن ونزول الجند، ولقد كان نهر النيل مسرحًا لمعارك طاحنة بين الصليبيين والمسلمين، وعلى صفحاته اشتبكت الأساطيل الإسلامية والصليبية في عشرات المعارك.
ظلت دمياط صامدةً للحصار البحري والبري، قرابة السنة، حتى عصف الجوع والتعب والمرض بأهلها، وأوشكت على السقوط، مما حدا بالسلطان الكامل بأن يعرض على الصليبيين عرضًا في غاية الكرم، والتخاذل، والجبن -في نفس الوقت-؛ إذ عرض عليهم التنازل عن جميع ما فتحه عمه صلاح الدين؛ نظير أن يرحلوا عن دمياط، أي عرض عليهم تسليم بيت المقدس، وعسقلان، وطبرية، وصيدا، وجبلة، واللاذقية، وهو ما يعني بعبارة أخرى؛ إعادة الممالك الصليبية القديمة كما كانت قائمة سنة 543هـ، وإهدار كل دماء الشهداء، وجهاد السنين نظير السلام العادل الشامل!
أعجب ما في الأمر أن الصليبيين قد رفضا هذا العرض السخي، وكان الملك حنا برين (وريث عرش بيت المقدس)، والصليبيون الفرنسيون، والصليبيون المستوطنون في فلسطين؛ يحبذون قبول العرض السلطاني؛ لأنه ضمن عودة بيت المقدس، وغيرها من البؤر الصليبية القديمة، ولكن الكاردينال الأحمق (بلاجيوس) رفض العرض وأيده في ذلك الإيطاليون وفرسان الرهبنة –الداوية والاستبارية –ولقد كان غرور (بلاجيوس)؛ دافعًا لرفضه لهذا العرض الذي لا يرفضه عاقل-أبدًا-، وعلى ما يبدو أن تخاذل السلطان الكامل قد أغرى (بلاجيوس)؛ لأن يغير أهداف الحملة من الاستيلاء على بيت المقدس، أو دمياط، إلى غزو المنطقة الإسلامية بأسرها، ومن عجائب القدر أن هذا الرفض كان سببًا لانتصار المسلمين في دمياط.
وفي يوم 25 شعبان سنة 616هـ/ 5 نوفمبر 1219م؛ اقتحم الصليبيون مدينة دمياط، بعد صمودهم البطولي، وما إن دخلوها؛ حتى ارتكبوا واحدةً من مجازرهم الدموية الشهيرة، وأخذوا في صبغ دمياط بالصبغة الصليبية؛ فحولوا جوامعها إلى كنائس، وحصنوا أسوارها، وبثوا سراياهم في القرى المحيطة؛ يقتلون، وينهبون، ولكن الخلافات الجانبية بين زعماء الحملة؛ جعلت العمليات القتالية؛ تتوقف لعام ونصف، وذلك من صنع الله-عز وجل-لعباده المؤمنين، فإن الصليبيين قد اختلفوا في زعامة دمياط وملكيتها، ففي حين رأى حنا برين أحقيته بملكية دمياط، حتى إنه قد أمر بسك عملة جديدة عليها صورته بلقب (ملك دمياط)، وفي المقابل أعلن الكاردنيال (بلاجيوس) أن دمياط ملك لكل النصارى الذين تمثلهم البابويه؛ فغضب حنا برين، وانسحب هو وجنوده إلى عكا، وأصبح (بلاجيوس) القائد الوحيد لهذه الجموع العرقية المشاغبة المتنافسة.
لم يجد السلطان المذعور مفرًا من القتال؛ فعسكر بقواته عند رأس بحر أشمون طناح، (في المنزلة التي عرفت بعد ذلك باسم المنصورة؛ تيمنًا بانتصاره)، وكان هذا الموضع استراتيجيًا لحد كبير، فهو موضع مثلث، حصين بضلعين مائيين هما (البحر الصغير والنيل)، فلا يستطيع الصليبيون أن تصل إليه برًا؛ إلا بعد عبور البحر الصغير؛ المعروف بشدة انحدار جانبيه وسرعة تياره، وفي نفس الوقت كانت الإمدادات تأتي على معسكر السلطان من إخوته بالشام، ومن سائر أقاليم مصر، وأحسن السلطان الكامل استغلال فترة التوقف في تحصين موقعه؛ حتى أصبح مدينة متكاملة، وأقيمت بها الأسواق، والفنادق، والحمامات، وأدار الكامل عليها سورًا مما يلي البحر وستره بالآلات الحربية.
ظلت الأوضاع على سكونها حتى سنة 617هـ/1221م، وفيها أرسلت إمدادات صليبية كبيرة إلى دمياط، بقيادة لويس دوق بافاريا، وعدد كبير من السادة الإقطاعيين، كما أرسل تهديدًا-شديد اللهجة-إلى حنا برين؛ للانضمام إلى الحملة؛ وإلا تعرض للطرد، والحرمان الكنسي؛ فاستجاب على الفور، وكما تكاملت الإمدادات في دمياط؛ قرر الكاردنيال الأحمق (بلاجيوس) الزحف نحو القاهرة؛ لاحتلالها، وتقدم الصليبيون ناحية الجنوب، ونزلوا تجاه بلدة طلخا (شمالي المعسكر الإسلامي)، بحيث صار لا يفصل المعسكرين سوى قناة أو بحر أشمون، ثم التحم الفريقان في قتال بري وبحري عنيف، وقامت البحرية الأيوبية النيلية بدور هام وأساسي في تلك المعارك.
فقد تقدم الأسطول المصري بقيادة الأمير بدر الدين بن حسون في مائة سفينة مقاتلة في بحر المحلة –وهو فرع قديم لم يعد موجودًا الآن وكان يخرج من النيل قرب بنها ثم يتصل بالنيل ثانية شمالي طلخا والمنصورة أي بالقرب من ميدان القتال – واستطاع أن يقطع الطريق على السفن الصليبية القادمة من دمياط بالمؤن والذخائر إلى ميدان القتال، كما استطاع أن يستولي على عدد كبير من قطع الأسطول الصليبي بكل ما فيها من رجال وسلاح ومؤن، فتحرج موقف الصليبيين للغاية، ولكن-مع ذلك-واصلوا القتال.
الصليبيون لم يكن عندهم خبرة قتالية في البحرية النيلية، فهم قد اعتادوا على المراكب البحرية في البحر المتوسط الممتد والمتسع، ولكنهم يجهلون أسرار النيل، ومفاتيح القتال على صفحاته، وقد استغل المسلمون ذلك أحسن استغلال، فبعد الضربة التي وجهها الأسطول المصري لنظيره الصليبي؛ استغل السلطان الكامل فرصةَ فيضان النيل- وكان قد اقترب موسمه-، وانتخب جماعة من خبراء القتال البحري من المسلمين، وكلفهم بعبور بحر المحلة إلى معسكر الصليبيين، والقيام بنقب السد الموجود على النيل في عدة مواضع، والعودة-سريعًا-تحت جنح الظلام، وبالفعل نجح أبطال المسلمين الشجعان في مهمتهم الفدائية، فلما أصبح الصليبيون؛ وجدوا أنفسهم غارقين في الماء والطين، وحال الماء بينهم وبين طريق الرجوع إلى دمياط، وأصبحوا وليس لهم جهة يسلكونها سوى جهة واحدة ضيقة عند بحر أشمون، وقد سدها السلطان الكامل بالجنود والسلاح؛ فانحصر الصليبيون بذلك من سائر الجهات.
لم يكن الأمر يحتاج لطول تفكير؛ فقد أدرك الكاردنيال الأحمق أنه قد ورط حملته الصليبية في مأزق لا خروج منه، وأغرقها-بغبائه-في طين الدلتا، فلم يكن ثمة مفر من طلب السلام؛ نظير الخروج بأمان، وقبل السلطان الكامل بهذا العرض، وقد خالفه في القبول الكثير من قواده وحتى إخوته ملوك الشام، المعظم عيسى، والأشرف موسى؛ إلا أنه أصر على القبول، وكان في إمكانه إبادة الحملة الصليبية كلها، ولكن-وكما قلنا من قبل-مؤثرًا للسلامة والدعة، لا يحب الحرب والقتال، ولو أبادهم؛ لكان خيرًا له وللأمة الإسلامية؛ لأن هؤلاء الصليبين-أنفسهم- سيعاودون الكرة مرة أخرى، وعلى دمياط-أيضًا-؛ لأن روح التحريض الصليبية كانت-وما زالت-حية في أوروبا ضد العالم الإسلامي، والأيام والحوادث خير دليل على ذلك
وهكذا انتهت الحملة الصليبية الخامسة بفشل ذريع وخسائر ضخمة للصليبيين؛ فكانت آخر حملة يقودها كرسي البابويه-بمفرده-، والفضل-بعد الله-عز وجل-يرجع للتجربة النيلية الإسلامية، التي قصمت ظهور هؤلاء الأعداء.