نسر يخفق بجناحيه في سماء الناس

سم الله الرحمن الرحيم
**************
الذكرى الـ 72
لاستشهـــاد الإمـــام البنـــا
14 ربيع ثان 1368 -12 فبراير 1949
غرة رجب الفرد 1442 – 12 فبراير 2021
نسر يخفق بجناحيه في سماء الناس
بقلم: أ. إبراهيم منير – نائب المرشد العام
في ذكري إستشهاده
حسن البنا

طاردوه حياً .. وقتلوه ليلاً .. ودفنوه سراً .. ويحاصرون فكره ومحبيه وجماعته ظلماً وقهراً .. ومع كل هذا فقد عجزت قواهم مع ما يأتيهم من مدد عن ملاحقة فكره الذي حملته الرياح الطيبة إلي كل المعمورة جناحي النسر الخافق فى سماء الناس.
إنه حسن عبد الرحمن البنا الذي تتقارب سنوات عمله علي الأرض مع سنوات النسور .. إثنان وأربعون عاماً .. عاشها طفلاً رضيعاً وفتي يطلب المعرفة ثم مدرساً وداعيةً وزوجاً وأباً ومفكرًا وسياسيًا.. ومجتهدًا يطلب العلم من مظانه ومن تراث الأمة الصحيح ليصل إلي فكرينفع الناس يجمع ولا يفرق يحيي النفوس الطيبة بإذن الله .. يجمع عليه كل فئات الناس بلا إستثناء.

ثم يأتيه القدر ليبقي الفكر، وتبقي جماعته بعده وفيةً لقناعاتها ولتلاقي بسببه ما لاقاه مرشدها الأول من مشقة التمسك بالعروة الوثقي، ولتصبح الضمير الحي للناس دون مساومة أو إنحراف قرابة قرن من الزمان مع تواصل الأجيال فيه .. وتأتي بعد هذا الزمان بشريات تمكين الفكر وجلائه .. فلم يعد غريباً أن يقال عن من يطلب العدالة للناس ويتحمل تبعات هذا الطلب أنه إخوان .. ومن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر أنه إخوان .. ومن يحسن في عمله مؤتمناً علي ما بيده أنه إخوان .. حتي كادت الفضائل ومن يتمسك بها علي ما في هذا التمسك من بلاءات أن تنسب للإخوان لما يلحق بأصحابها من دماء تهدر علي الأرض وأعواد المشانق أو غياهب السجون .

والأوضح من ذلك وخلال القرن الذي مضي أن جماعة الإخوان المسلمين كانت تستدعيها بعض أزمات مجتمعاتها التي لا تجد من يتصدي لها غيرهم .. ثم تعود بعد ذلك هذه المجتمعات إلي التعامل معها بمثل مع ما فعلته مع الإمام وما فعلته وتفعله مع جماعته وأفرادها حتي الآن .
لا ندعي الفضيلة، ونعوذ بالله سبحانه وتعالي من التعالى علي الناس ومن إنكار فضل أصحاب الفضل، ولكنها شهقات نفس فى ذكري إستشهاد المرشد الأول والذي يعيش بفكره وسيرته وعجز شانئُوه عن اللحاق به، نستعرض فيها سيرته بعاطفة المريد مع أستاذه الذي يتمثل عنده كنسر مازال يخفق بجناحيه في سماء الناس .
ما على العاشق من ملام
هل حقيقةً أن اكثر من سبعين عاما من الزمن مرّت على استشهاد الإمام المجدد حسن بن عبد الرحمن البنا، أو صفة المرشد ووظيفته التي قبلها من إخوانه ولم يقبل غيرها مما كان سائدا في عصره وقبله وبعده من صفات كالزعيم والرئيس والقائد الملهم وابن الشمس وبطل التحرير وغيرها من الصفات التي يُلْحقها الأتباع بالمتبوع في لحظات انبهار بموقف أو اشتعال عاطفة بخطبة حماسية سرعان ما يخمدا بالموت أو بالتغيير الذي يطرأ على العباد – إلا من رحم الله – …
هذا التغيير الذي يزحف إلى الناس كدبيب نملة في جحر مظلم بللته قطرات مطر غسلت ما حوله وما فوقه من أدران الخلق والأرض وانسابت إليه بأوشابها لتحيل الصفاء إلى كدر والإخلاص إلى إعجاب بالنفس وزهوا بالجلوس على مقعد الزعامة والرئاسة يفصل بين الجالس عليه وبين أتباعه لتنقطع الصلة الروحية والنفسية بين الإثنين ولا تبقى غير صيحات الحناجر تنطق بالأمر وتصمت بالأمر حتى إذا جاء الوعد الحق وانصرف الأتباع إلى دنياهم بعد أن يهيلوا على زعيمهم التراب يولون ظهورهم له .. وفي استقبال زعيم جديد بغضا أو كرها .. أو خداعا ليزداد دبيب النمل ضجيجا مع كل ما يجرفه من أدران الأرض والخلق وأمراض القلوب.
اكثر من 115 عاما مرت على ميلاد المرشد الأول لجماعة الإخوان المسلمين منها واحد وسبعين عاما وهو في قبره وما زال يشغل الدنيا كلها أتباعا ومعارضين حكاما ومحكومين لم يُدر أحد منهم له ظهره حتى أشد الناس خصومة له والجميع يرونه كنسر ما زال يحلق في السماء صامدا في وجه كل الأعاصير ولم تكن حادثة مقتله التي باء بإثمها من أطلق الرصاص فأسال دمه ثم أطلقه ثانية وثالثة وما زال يطلقه ليجتث فكره وأتباعه من على وجه الأرض، ومنهم من أطلق الحبر الأسود وما زال يطلقه يملأ به صحائف سود محاولا اغتيال دعوته وفكره وتاريخه، ومع كل ذلك ما زال جناحا النسر يخفقان ويزدادان سرعة وقوة يستقبلان الرصاص وكلمات السوء بخاصية عجيبة ثم يحيلانهما إلى إشعاع نور تحمله السحب وتنثره قطرات قرآنية في بقاع من الأرض وفي قلوب وفي أفكار بشر ما كان الشهيد يحصي حين لقي ربه لهم أرضا ولا ألسنة.


ما على العاشق من ملام .. هكذا يردد المحبون ونردده نحن كذلك في جماعة الإخوان المسلمين عند الحديث عن رجل ساقه الله سبحانه وتعالى إلينا وإن اختلفت أقطارنا وأعمارنا وأجيالنا ليكون مرشدا لنا ولكل الأمة الإسلامية والإنسانية في هذا القرن وفي هذه السنوات من عمر الدنيا، والرجل ليس بنبي ولم يكن ملكا ولم يترك مالا نقتسمه بعد أن غادر الدنيا ولكنه الفكر الذي أزعج البعض واستغربه البعض الآخر رغم أن الرجل لم يأت بشيء جديد، لم يكن صاحب مذهب فقهي جديد يضيفه إلى ما في الساحة من مدارس فقهية ولا صاحب طريقة تنافس غيرها من الطرق، ولا نافس ملكا على ملكه ولا زعيما على أتباعه ولكنه حمل بيديه شمعةًَ يشق بها عتمة سوء ضربت الأرض عندما وعى الدنيا وتحمل في سبيلها ما لا يتحمله مثله من البشر استخفافا واستنكارا وعزوفا وإدبارا، لم يخرج على الناس بأحاجي وألغاز بل أعاد عليهم قراءة تاريخ الأمة .. عقيدة ومنهاجا .. ملتزما بمصدريها الرئيسين قرآن ربنا تبارك وتعالى وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقرأ على الناس جميعا – جماعته ومخالفيه – ما أغفلوه من واجبات فرضها الخالق سبحانه تجاه النفس وتجاه الغير وصاغ ما رآه في ضوء الشمعة التي حملها بيديه وحافظ على نورها بقلبه وجوارحه بسلوك عملي ليس فيه التواء وبكلمات بسيطة لا يصعب على القارئ فهمها، لم يلجأ بنفسه وجماعته إلى كهوف العزلة والانضواء ولكنه خاض بهم ومعهم معارك الحياة ليصلح الدنيا كلها بالدين .. ومن هنا جاءت انطلاقته كنسر فوق السحاب.
سنكتب وسيكتب غيرنا عن الإمام الشهيد حسن البنا .. إنسانا ومفكرا وداعية إلى الله، وستظل ذكرى ميلاد الرجل كذكرى استشهاده دافعتين إلى مزيد من الكتابة والتنقيب وقد عاش يرحمه الله في هذه الدنيا لفكرة استولت عليه فتَرَهْبَنَ في محرابها، نراه نحن في جماعة الإخوان المسلمين نسرا ما زال جناحاه القويان يخفقان في علياء، ويراه غيرنا غير ذلك ولن يضير الرجل على أي صورة يراه البشر عليها ولن يضيرنا نحن أيضا ولن نطلب الإنصاف لشهيدنا من الخلق … فحسبنا وحسبه الله .. وكفى .
يا قوم إن الأمر لمن يؤمن بالموت والبعث شهادة من يكتمها فإنه آثم قلبه، والرجل أتى إلى الدنيا كما يأتي كل الناس وخرج منها ليسكن مع طير خضر تحلّق في الجنة بإذن الله ونحسبه كذلك ام شاء الله.. وبقي رمزه لدينا نسر يخفق بجناحيه في سماء الناس وهو عندنا ما زال مرشدنا الأول .. عبد من عباد الله.
غريبة هي حياة نسرنا الخافق في سماء الناس كغربة أمثاله في حياتهم، والبداية كانت منذ طفولته التي ما عاشها كما عاش الغالبية من أترابه، تعلق بكتاب الله حفظا وتجويدا .. وفهما ويقينا فإذا به ولمّا يبلغ العاشرة من عمره والتي تمثل ربع زمان وجوده في هذه الدنيا قد انساب بكيانه كله إلى مدارج التكليف لتحمل نفسه الغضة البريئة فريضة من أهم فرائض الإسلام وهي فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتي وعى الأمر الإلهي القاطع بها في كتاب الله عز وجل: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ..) فما توانى عن أن يكون من هذه الأمة وهو في مدرسته الابتدائية ومع مجموعة من زملائه، وكانت القيادة التي سعت إليه بداية من “جمعية الأخلاق الأدبية” التي تهتم بالسلوك الإنساني القويم ثم “جمعية منع المحرمات” التي شكلت الخطوة الثانية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأسلوب فطري عجيب يراعي مع الأحكام الشرعية الآداب العامة في الخطاب واستخدام القواعد العامة للمجتمع في تحقيقها متجنبا الهدم .. مستهدفا البناء.
ولأن للطريق الصحيح مناهج، ولهذه المناهج شيوخها الثقاة، فقد شغل نفسه بالتعرف على كلا الاثنين، واستغرقه هذا الانشغال في حله وترحاله .. في مدرسته وفي بيته .. في يقظته ومنامه، وتعلق بعالم عامل زكّاه له والده قرأ عنه ولم يره، ودقق في سيرته بقراءة ما ورد عنه في كتاب “المنهل الصافي”، فكان العزم على مواصلة المسيرة على هدى وبصيرة ليبدأ الربع الثاني من زمان وجوده في هذه الدنيا برؤيا رآها في منامه وهو في سن الرابعة عشرة يرويها لنا في مذكراته:
ومضى النسر الخافق بجناحيه باقي عمره في سباق مع “إبليس اللعين” .. لا بجهده المحدود ولكن بعون الله سبحانه، مسترشدا بسيرة العلماء العاملين ليكون هو نفسه بعد ذلك مرشدا لجماعة وأتباع على مساحة الكرة الأرضية لم يروه كما لم ير هو مرشده الذي تعلق به في منامه ويقظته وليواصل الجميع بعون الله سباق الهدى واليقين على بصيرة الذي بدأه مرشدهم .. ولم يروه .. وكل منهم ينظر إليه بيقظة القلب المحروم منها الكثيرون وهو يرفع يمناه في وجه الشبح .. وكل شبح .. وصيحته التي تكسر في قلوب أتباعه قيود أغلال عبودية البشر لغير خالق البشر سبحانه وتعالى .. إخسأ يا لعين.
ونسألك يارب الصبر والثبات