ناصر.. بدون مكياج

ناصر.. بدون مكياج
قال النبي عليه الصلاة والسلام: إن من البيان لسحرًا. رواه البخاري ومسلم.
فقد يكون مفعول الكلام في بعض الأحيان أشد من مفعول السحر لذا فالإعلام يصبح هنا سلاحًا ذا حدين بحسب من يدير دفته؛ فإما أن يكون أداة توعية وإصلاح، وإما أن يكون أداة هدم وتزييف للوعي الجمعي كما كان الإعلام في العهد البائد إذ كان يحول الهزيمة نصرًا والنصر هزيمة ويقلب الحق باطلًا والباطل حقًا، وإن المرء ليعجب أشد العجب وهو يرى فترة حالكة من تاريخ الأمة يصورها الإعلام فترةً للمجد والفخار وأن يجد كيف بلغت المنظومة الإعلامية في العهد الناصري من القوة لدرجة أن يمتد مفعول سحرها عشرات السنين وأن الخداع قد امتد ليصيب أفرادًا لم يتعرضوا بشكل مباشر لآلة المسخ الإعلامية في زمن الصوت الواحد، فقد نعذر الناس التي عاشت في هذا العهد ولم تسمع إلا صوت إعلام عبد الناصر حيث لم تكن هناك فضائيات ولا معارضة ولا صحافة مستقلة ولا إنترنت!
ففي هذا الحين كان إعلامنا الموجه يسبح بحمد القائد العسكري الذي لا يهزم مع أنه لم يدخل حربًا إلا وخسرها، ولا يذكر له أي بطولات عسكرية منذ كان ضابطًا في حرب فلسطين حيث حوصر في الفالوجا, وفي حرب 56 التي ذاقت فيها مصر الأمرين حيث دُمر سلاح الطيران المصري – كما سيتكرر لاحقًا – ومع ذلك كان عبد الناصر بعدها يتغنى بانتصاره على ثلاث دول في بورسعيد ويقول للشعب أن المصريين هزموا أكبر دولتين أوروبيتين في وقت واحد، وأن القومية العربية قد كسرت كل حصار حولها بعد أن انتصرت على قوى الاحتلال في العالم كله!
ونفس الأمر يتكرر في حرب 67 إذ نجد أنه بينما كان الطيران الإسرائيلي يمرح في سماء المحروسة بعد أن قضى على نظيره المصري، كان المذيع أحمد سعيد في إذاعة صوت العرب يهتف بحماس: اضرب يا أخي.. دمر يا أخي ..أسقطنا 30 طائرة ثم يهتف: أسقطنا 40 طائرة ثم يهتف ويهتف تتلوه الأغاني الوطنية مهللة للنصر العظيم، وإذا بالجماهير تصعق بعدها بخبر احتلال سيناء وانهيار سلاح الطيران المصري وضياع القدس وغزة والضفة والجولان، وبمقتل الآلاف والآلاف من جنودنا وأسر آلاف ودفنهم أحياء، ونزوح مئات الآلاف من المهجرين، كل هذا في وقت واحد في موقف مفجع لم تعش الأمة أفظع منه منذ انهيار الخلافة الإسلامية, كل هذا وإعلامنا يهلل للزعيم الملهم صانع المعجزات الذي علمنا الكرامة وأذل الاستعمار ورفع اسم مصر عاليًا وعاشت مصر حرة مستقلة (تصفيق حاد).
يقول الأستاذ رشاد كامل: سبق أن روى الأستاذ «منير حافظ» الرجل الثاني في مكتب معلومات جمال عبد الناصر رواية لها دلالتها السياسية عندما قال لي: من المواقف التي لن أنساها مدى العمر ما جرى مساء الخامس من يونيو عام 1967 فقد كان جمال عبد الناصر يباشر الاتصال تليفونيًّا مع سامي شرف «سكرتير الرئيس للمعلومات» ثانية بثانية ودقيقة بدقيقة ويبلغه تعليماته إلى السيد «محمد فائق» وزير الإرشاد القومي (الإعلام)، بل وصل الأمر بعبد الناصر إلى أنه كان يوجه التركيز على ما هو المهم من فقرات الأخبار بنفسه وطلب أن تذاع عقب كل نشرة مباشرة أغنية «يا أهلًا بالمعارك» لعبد الحليم حافظ التي كتبها الشاعر الكبير صلاح جاهين، ولاحظ عبد الناصر أن المقدمة الموسيقية للأغنية أطول من اللازم فأمر بحذفها واختصارها وبمجرد أن ينتهي المذيع من قراءة النشرة يدخل عبد الحليم حافظ قائلًا: يا أهلًا بالمعارك.. يا بخت مين يشارك.. بنارها نستبارك.. ونطلع منصورين! ولا تعليق!

وما أصدق ما قاله نزار قباني في «هوامش على دفتر النكسة»:
إذا خسرنا الحربَ لا غرابهْ
لأننا ندخُلها.. بكلِّ ما يملكُ الشرقيُّ من مواهبِ الخطابهْ
بالعنترياتِ التي ما قتلت ذبابهْ
فكان من يتابع الإعلام المصري وقتها يتصور أن مصر قد صارت هي القوة العظمى المهيمنة في العالم لا سيما خطابات عبد الناصر، فمثلًا عندما رفض السفير الأمريكي الكلام عن معونة القمح لمصر رد عليه عبد الناصر في خطاب جماهيري وقال له: «عالجزمة.. اللي سلوكنا مش عاجبه يشرب من البحر وإن ما كفاهوش البحر الأبيض بنديله البحر الأحمر يشربه… اللي بيكلمنا أي كلمة بنقطع له لسانه» وكانت الجماهير تهتف له وتتابعه بحماس منقطع النظير طول الخطاب!
ولما رد على تهديدات إسرائيل قبل النكسة وقال: «هنرمي إسرائيل في البحر» وبعدها إسرائيل هي التي رمت قواتنا في البحر رغم أنه في الحقيقة لم يكن قد شن غارة واحدة على إسرائيل في عهده أبدًا، ولا حتى في العدوان الثلاثي، بل إنه لم يكن قد رد على الغارة اليهودية على غزة حيث قتل اليهود فيها 35 جنديًا مصريًا!
فقد كان الإعلام المصري في العهد الناصري مسخرًا لمهمتين الأولى: تمجيد الزعيم، وأقوال الزعيم، وأعمال الزعيم، وأفكار الزعيم، وبطولات الزعيم والتعتيم على أخطائه حتى سمى بعض الكتاب مصر في ذلك العهد «نفاقستان» أي «دولة النفاق».
فبعد مسرحية المنشية خرجت الإذاعة بأغنية لأم كلثوم تقول: يا جمال يا مثال الوطنية أجمل أعيادنا القومية بنجاتك يوم المنشية!
فكان تلقين الشعب باستمرار وبكثافة وعلى جميع الأصعدة أن مصر هبة جمال عبد الناصر وأنه الزعيم البطل الذي علمنا الكرامة، ففي حين كان عبد الحليم يغني في الإذاعة أغنية «احنا الشعب» يقول فيها: اخترناك من قلب الشعب, يا فاتح باب الحرية يا ريس يا كبير القلب, يا حلاوة الشعب وهو بيهتف باسم حبيبه, مبروك ع الشعب خلاص السعد هيبقى نصيبه, واحنا اخترناك وهنمشي وراك, يا فاتح باب الحرية يا ريس يا كبير القلب!
في نفس الوقت كان السجناء السياسيون يرددون هذه الأغاني مكرهين تحت ضرب السياط على ظهورهم في سلخانات التعذيب الناصرية, وفي الوقت نفسه بالنسبة لكثير من المدارس كان النشيد في المدارس هو) :ناصر ناصر, كلنا بنحبك, وحنفضل جنبك, ونعيش ونقولك, يا حبيب الكل يا ناصر) وكانوا يرددونه دائمًا في المدرسة أثناء مسيرة الطابور إلى الفصول الدراسية.
فكانت زعامة عبد الناصر وتقديسه هي المشروع الذي كان يعمل جهاز الدولة وقتها لإنجازه!
أما المهمة الثانية للإعلام فهي: أن يشوه خصوم عبد الناصر ليرفع عنهم الغطاء الشعبي ليبرر ما يفعله النظام بهم ويمهد الطريق للقضاء عليهم، فمنذ قال ناصر كلمته الشهيرة: «ارفع رأسك يا أخي» وهو لم يدع أحدًا يرفع رأسه إلا وقطع رأسه، بدءًا من الرئيس محمد نجيب قائد الثورة الذي زعم الإعلام الناصري أنه كان مجرد واجهة للثورة, إلى صلاح سالم الذي حمله مسئولية انفصال السودان، ثم جمال سالم الذي حرقه شعبيًا وإعلاميًا عن طريق ملف المحاكمات الثورية الظالمة, إلى جماعة الإخوان التي اتهمت بكل التهم لتبرير المذابح والتعذيب الذي مورس بحق أعضائها، إلى القضاء الشرعي الذي شوهوا صورة رجاله ولوثوا سمعتهم, وفي النهاية أجهز على صديقه الحميم المشير عامر ليتحمل وحده مسئولية النكسة وأعلنت إذاعة ناصر انتحاره فور موته وحتى قبل سماع لجنة التحقيق!
إسلام المنسى